نقف اليوم، بل العالم الحرّ كلّه، عاجزين عن وصف ما حلّ بغزة بعد انقضاء عام على الهجوم الذي شنته "حماس" باسم (طوفان الأقصى) ضدّ إسرائيل؛ وما نتج منه شاهدناه وعلمنا ردّاً كاسحاً منها بعمليات تقتيل إبادية للفلسطينيين في القطاع تجاوز الأربعين ألفاً عدداً وما انفكّ يتصاعد، والخراب الشامل للعمران ليس له مثيل تقريباً في تاريخ الحروب. ثم نراه يتسع ويضرب لبنان شعباً وعمراناً وسيادة؛ عدوان آخر مدّ لا يعرف الحدّ.
هذه الورقة تريد أن تذكِّر أولاً، بالتوافق، بل قل المساندة شبه المطلقة للقوى الغربية المدعوة بـ"المجتمع الدولي" لإسرائيل، ونُصرتها بالمال والسلاح، وبحملات إعلامية هوجاء مضلّلة، ومخالفة للمبادئ والقيم الإنسانية التي لا تكف عن التشدّق بها، وتعتبرها امتيازاً وحكراً على ديموقراطياتها، راسمة بذلك خريطة جديدة ومراتب مغايرة لحقوق الإنسان بين شعوب تستحقها، وأخرى يجوز الدَّوس عليها ويكون مشروعاً إفناؤها باسم الحقوق نفسها.
على مدار عام قرأنا وسمعنا وشاهدنا نحن الذين درسنا في الجامعات الغربية وانتسبنا إلى منابر ثقافية وسياسية قوامها فكر التنوير وإيديولوجية العدالة والمساوة بتعدّد مصادرها، ثم وقعنا دفعة واحدة في شَرك الخديعة مثل السُّذّج والجَهَلة، لم نقرأ تاريخ الغرب كما يجب ونسينا كيف تأسّست إسرائيل.
لن نعود إلى مواقف المرتدّين في الغرب، المتقلبين على ما توهمنا أنه انحيازٌ لحقوق الشعوب، أصابتنا التّخمة وحتى القرفُ منهم، وعزاؤنا من خيبة الأمل واليقظة من الضلال، أن نكون قد أخذنا الدرس فلا نُلدغ من الجُحر مراتٍ لا مرتين، فقط.
ولنا عزاءٌ آخر يؤازر في المواساة، وهو أن الغرب المتواطئ مع العدوان ليس واحداً ولا كُلاًّ منسجماً جميعه في هذا الموقف، فلقد شهدنا خلال الشهور الماضية حملات تضامن واسعة في عواصمه، تظاهرات واحتجاجات وبيانات واعتصامات جماهيرية وطلابية في مدن عالمية نصرة لفلسطين وشعبها في غزة، وأمكن فكُّ طوق الحصار على الرأي الآخر المواجه لكذبة أن إسرائيل هي الضّحية ومن حقها الدفاع عن نفسها وكذا وكيت. هذا الرأي الذي حوصر بالتجريم واتُهم معتنقوه بمعاداة السامية التي أصبحت سيف ديموقليس مصلتاً على المفكرين والصحفيين والأكاديميين يكمّم الأفواه ويرهبهم.
صوت الشرف والوعي المضاد، بعد عام على العدوان، يخرج اليوم من معاقل جامعية حصينة، معهد العلوم السياسية في باريس، مثالاً، بالموقف المشرّف لطلابه، لم تنفع معه تهديدات شرسة من الدولة، يذكِّر بجيل انتفاضة 68 التاريخية، أيقظت مجازر غزة أحفاده في صحوة رائعة.
الصوت الصادح، الصادع بالحق، نسمعه من أرفع مؤسسة أكاديمية في فرنسا، من الكوليج دو فرانس Collège de France، أساتذتها كبارٌ علماً وصيتاً، ولا يخوضون في السّفاسف، ولا ينطقون عن الهوى. صاحبه البروفيسور ديديي فاسان Didier Fassin يشغل كرسيّ "القضايا الأخلاقية والرهانات السياسية في المجتمعات المعاصرة"، بجانب تدريسه العلوم الاجتماعية في معهد الدراسات في برنستون، وجامعة بيركلي في كاليفورنيا، ومعهد الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية.
سبّاق، قبل العرب أنفسهم، ليُطهِّر الصوت الغربي من أدران التصهين والانحياز الأعمى للمعتدي الإسرائيلي، صدر له هذه الأيام كتابه: Une étrange défaite. Sur le consentement et l’écrasement à Gaza (هزيمة غريبة ـ في المصادقة على سحق غزة) صادر عن دار لاديكوفيرت.
يشي استهلاله بموضوعه ومنهجه، فهو يطرحه في إطار الدفاع عن الأخلاقيات باعتبار: "أن المصادقة (الموافقة) [من قِبل الغرب] على سحق غزة قد خلق ثغرة واسعة في النظام الأخلاقي للعالم"، وأن التصديق على اجتياح غزة وتقتيل سكانها مع أهالي الضفة الغربية سيترك أثراً لا يمّحي في ذاكرة المجتمعات المعنية. عنده إذا كانت هزيمة فرنسا سنة 1940عسكرية كما وصفها مارك بلوخ بـ"الهزيمة الغريبة"، فإن هزيمتها في الحاضر ذاتُ طبيعة أخلاقية، وتحتاج إلى اختبار ما الذي أدّى إلى عديد مسؤولين سياسيين وشخصيات ثقافية قبلوا بمسألة إحصائية منطقها أن حياة الفلسطينيين تعادل مئات المرّات أدنى من حياة المدنيين الإسرائليين، وأن المطالبة بوقف إطلاق النار بعد مجازر الأطفال تُعدُّ موقفاً معاديّاً للسامية، وأن المنابر الإعلامية الغربية تذيع أخبار المحتلين من دون تحقّق منها، والسلطات العمومية والمؤسسات الجامعية تكمّم أفواه المطالبين بتطبيق القانون الدولي للحروب وتُبيح للمعتدين كلّ شيء؛ وكيف أن كثيرين ممن عليهم أن ينطقوا، صمتوا وأداروا وجههم للفاجعة.
في كتابه الصارم، يرى ديديي فاسان أن صيغة الموافقة تحتاج إلى توضيح، لتَضمُّنِها بعدين. الأول سالب، مقتضاه عدم الاعتراض على مشروع، أي السماح بإتمامه. الثاني موجب، المصادقة على إنجاز المشروع ومن ثم المشاركة فيه. في حالة غزة يزدوج البعدان.
حين يمتنع مجلس الأمن عن الدعوة لوقف إطلاق النار بسبب فيتو عضو فيه، أو عندما يمتنع مجلس إدارة جامعة عن إدانة تدمير الجامعات وقتل الأساتذة، فهو هنا يوافق سلباً، أي أنه يوافق على مواصلة قصف المدنيين واجتياح الأرض، ويصادق إيجاباً على تدمير المؤسسات التعليمية. وبالمقابل، حين يتوافد رؤساء الدول إلى القدس ليعلنوا عن مساندتهم لحق إسرائيل اللامشروط "للدفاع عن النفس" فإنهم يؤيّدون ضمناً استعمالها لكل الوسائل للقتال، بما في ذلك قتل الأطفال تصديقاً للمحتل الذي يعلن أنه لا يوجد أبرياء في غزة.
يرى فاسان أن هذا أمر يهون أمام جنوح الدول الغربية إلى اضطهاد المدافعين عن الفلسطينيين من أجل عيش كريم بتعريضهم لأقسى تهديد، والحالة أن الكلمات نفسها أضحت عاجزة عن قول ما يجري. هنا حيث "كل واحد يقف مشدوهاً وعاجزاً إزاء حدث خطير من تاريخنا المعاصر ستكون عواقبه الأخلاقية، ونتائجه السياسية والثقافية من الخطورة بمكان".
يصل أستاذ الكوليج دو فرانس إلى ما يسمّيه "قتل اللغة" أو محاولة قتلها بفرض قاموس خاص، وتحديد ما يُقال وما لا يُقال تحت طائلة التشنيع والإدانة والنبذ والطرد من المؤسسات وأشكال أخرى من القمع والقهر وحتى المحاكمة. إنه يندّد بـ" شرطة اللغة"، هي شرطة التفكير وما يقومان به من وشايات وإدانات. لهذا يطالب بحرّية القول والدفاع عنها، لجعل العالم أكثر وضوحاً وهو ما ساعدت عليه محكمة العدل الدولية بإقرارها واقع إبادة الفلسطينيين وإعادة النظر في مواقف التأييد السابقة للمحتل. لهذا وغيره يرى فاسال ضرورة إعداد أرشيف لهذا الجرح العميق في قرننا، والتي لا تشبه الحرب على غزة أيّ حرب أخرى فداحة، هذا إذا أمكن العثور على الكلمات الضرورية لقول الحقيقة الفاجعة، أحسب أن أستاذ الأخلاقيات قد وجدها وتميّز بيقظة ضمير تُعيد للفكر الغربي شرفَه ومبدئيّتَه بلا مساومة ولا تنازل. وهذه خطوة.