شكّلت رواية نزار عبد الستار " فورور"، الصادرة عن دار هاشيت أنطوان- نوفل (طبعة أولى-2024)، تجربة فريدة في معالجة تموضع الشخصيّات ومكانتها في سياق النّص، والحق أنّها انقلاب على السائد القائل بسرد ما حدث للشخصيّات الأساسيّة، لا سيّما الشخصيّات المعروفة في التاريخ السياسي أو الواقع الاجتماعي، نحو معادلة متحوّلة تقول بتقدّم الشخصيّة الثانويّة لانتزاع البطولة في فضاء واقع مغاير.
قصّة وحيدة جميل، المونولوجيست العراقيّة، صاحبة الفورور الذي انتقل من مريم فخر الدين إلى جيهان السادات، زوجة الرئيس المصري الراحل أنور السادات، وصولًا إلى عقيلة شاه إيران، تضع المتلقّي أمام واقع مختلف يضعنا للوهلة أولى أمام سؤال: هل القصة حقيقيّة أم محض ابتكار؟
هذا الشعور يزيد مع اعتماد عبد الستار لغة تجمع التواصليّة المبنيّة على أماكن وأعلام وتواريخ، وابداعيّة تتسم بالعاطفة التي تنقل مشاعر صابر عفيف وهواجسه المتنقلة بين لندن وبغداد وبيروت.
اللغة الواقعيّة نجح نزار عبد الستّار في خطف جميع القرّاء واقتيادهم إلى نصّه المباشر السلس لغويًّا، وساعدته طبيعة الشخصيّات وموقعها في عالمي السياسة والتاريخ في سبك المقاطع، بلغة أقرب إلى المذكرات والتوثيق. وفي الوقت نفسه، هي تلامس العاطفة الانسانيّة.
ففي قراءة أدقّ وهادئة ومتأنيّة للصفحات، نكتشف أن الكاتب اعتمد الاسلوب التواصلي القائم على الموضوعيّة والحياد التامّ واستخدام ضمير الغائب في معظم الأحيان والسياقات كون الرؤية السردية هي الرؤية إلى الخلف والقائمة على معرفة الراوي بكل ما حصل ويحصل وسيحصل داخل النّص.
فالشخصيات، مثل مريم فخر الدين وفيلمون وهبي وجيهان السادات وعبد الحليم حافظ، خلقت نوعًا من التنبيه أو الايقاظ للمتلقي كي يتابع طريقه في القراءة، وهي نقطة تسجّل لعبد الستّار كونه ابتعد عن المصطلحات المزخرفة أو التراكيب الصعبة التي تبطىء حركة السرد فضلًا عن التهرب من الحوار...الحلّ الأسهل للتخلص من الاسهاب وجماليّته.
في المقابل، تجلّت النبرة الابداعيّة من خلال شخصيّة صابر عفيف، الرجل العراقي الذي ورث المغامرة ورحلة البحث عن المتعلّقات العاطفيّة (الفورور) الخاص بوالدته، والتي أعادته إلى ذاته وعقده الشخصيّة، والتطرّق إلى الذات عبر ضمير المتكلّم "أنا".
ملامح صابر عفيف النفسيّة لم تكن لتظهر لولا اعتماد الكاتب النبرة العاطفيّة اللغويّة لرسمها، وذلك من خلال ترجمة سلوكيّاته التي خلقت عنصر الحركة داخل النّص وأعطت الشخصيّة طابعًا قلقًا متردّدًا تحاول أن تتجه في عمليّة القصّ من الاسترجاع المتسم بذكرياتها مع الآخر وذكريات الآخر وصولًا إلى الاستباق الذي جعل صابر عفيف محتارًا بين البحث عن نفسه وحياته الشخصيّة مع شريكته التي يفوقها سنًّا وتفوقه عاطفة، وبين العودة إلى الطفولة المقطّعة الأوصال والتي لطّخها الدهر بغبار اليتم والتشرد والمعاناة.
العاطفة تلك لم تدفع الكاتب الى التوجه نحو النسق الشاعري، بل منحت بدورها توازنًا في السرد بين معرفي معياريّ يقودنا نحو التاريخ والبحث في تفاصيله الفنيّة والسياسيّة والابداعيّ الذاتيّ. هذا ما أعادنا إلى الفرد وطبيعته وقلب الأدوار بين الشخصيّات والأعلام المعروفة الأساسيّة والشخصيّات الثانويّة التي تحوّلت إلى أساسيّة من خلال اللغز والحركة وطبيعة اللغة.
القصّة وموقع الشخصيّات رسم نزار عبد الستار ملامح القصّ في روايته بخطّ واحد، فخرج من نفق القصص المتشابكة نحو القصة الأساس التي تفرّع منها أحداثًا عدّة، وهذه الأحداث شكّلت بشكل أو بآخر نقاطًا رئيسة لدور الشخصيّات وموقعها في النّص.
اتخذت شخصيّة صابر عفيف موضع السارد، بالرغم من أنّها شخصيّة متكرّرة في أكثر من بقعة سرديّة أو مدوّنة، ما يظهر أنّ الغاية لم تكن في ابراز رؤية جديدة إلى العالم وإنما جعل الشخصيّة وسيلة لقلب المعادلة النصيّة وجعل الأعلام أو الشخصيّات المعروفة رموزًا على غرار عالم الشعر والقصيدة.
بالتالي فإنّ القصّة بكل ما تملكه من جماليّات، لناحية التفاصيل والموضوعة، لم تكن هي الأساس. التمرد الكتابي والتقني على مستوى السرد هو الأهم، وهو ما جعلنا أمام أنموذج لاخراج النص من نمطيّته وكلاسيكيّة الحبكة من خلال عمل الشخصيّة وطبيعتها وموقعها في النص.
لم يترك نزار عبد الستار روايته على أنّها نصّ مستقلّ غايته الامتاع والمؤانسة بل كان يخاطب النقد والنقاد من خلال اجتراح واقعٍ من قلب واقع مكرور وسائد ومطبوع في معظم أجزاء الذاكرة العربيّة والانسانيّة وقد ساعدت اللغة بتوازنها و خفتها الكاتب على ترك أنموذج يستحق النقاش نصيًّا وموضوعاتيًّا.