النهار

!الفلسطينية باسمة التكروري لـ "النهار": الكتابة فعل مقاومة ضدّ المحو والنسيان
علي عطا
المصدر: النهار
كانت باسمة التكروري في التاسعة عشرة من عمرها عندما نُشِرَت روايتها "مقعد الغائبة"، فاعتُبِرت وقتذاك أصغر روائية فلسطينية.
!الفلسطينية باسمة التكروري لـ "النهار": الكتابة فعل مقاومة ضدّ المحو والنسيان
باسمة التكروري
A+   A-


كانت باسمة التكروري في التاسعة عشرة من عمرها عندما نُشِرَت روايتها "مقعد الغائبة"، فاعتُبِرت وقتذاك أصغر روائية فلسطينية. كان ذلك عشية اجتياح إسرائيلي لمدينة رام الله، في العام 2002، وغدا هذا الحدث محور روايتها "عبور شائك"، وجزءاً من مادة كتابها التوثيقي المكتوب بلغة أدبية "يوميات تحت الاحتلال".

درست باسمة التكروري، المقيمة حالياً في كندا، الأدب الإنكليزي وعلم الاجتماع في جامعة بيت لحم، حصلت على الماجستير في الإعلام من جامعة لازيل في ولاية ماساتشوستس الأميركية عام 2016، صدرت روايتها "مقعد الغائبة" عام 2001، وأتبعتها بثلاث روايات وثلاثة كتب للأطفال.

"يوميات تحت الاحتلال" هو عنوان كتابها الصادر عن "مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي"عام 2004، قبل أن يصدر مُترجمًا إلى الفرنسية عن دار "لاكورت اييشل" في مرسيليا عام 2006. حازت التكروري جوائز وتكريمات، كما تُرجمت قصصها الى لغات عدة.

تعتز التكروري بتأسيسها شبكة ومؤسسة "نواة للثقافة والفنون"، لكونها تعتبرها مساهمة جادة في خلق مساحة من العمل الثقافي في محيط العاصمة الكندية أوتاوا. ويركّز عمل "نواة" على بلوغ رقعة أوسع، وبناء أرضية تواصل لدى الكتّاب والفنانين العرب على مستوى أشمل، وهي في صدد تنظيم برنامج ثقافي عربي على مدار العام في مختلف المدن والمقاطعات الكندية الرئيسة، ابتداءً من منتصف العام 2025

هنا حوار مع باسمة التكروري، خصَّت به "النهار"، لنتعرّف أكثر إلى هذه الكاتبة وتجربتها الإبداعية وعلاقتها مع الثقافة العربية رغم إقامتها في الخارج...

 

*نبدأ من روايتك الأولى... كيف كان التعاطي النقدي معها، وهل أنتِ راضية عنها رغم نشرها في سنٍّ صغيرة؟

- كنتُ في السادسة عشرة من العمر حين كتبت هذه الرواية، ولكن اتحاد الكتّاب الفلسطينيين نشرها حين بلغت الـ 19. هي تحمل في طياتها الكثير من المشاعر والأفكار المتراكمة، وقد كان فيها بحث سيكولوجي للأبوية ولهوية الأنثى وصورتها. اليوم، أنظر إليها بنظرة ناضجة، فهي كانت البداية الفعلية لاستكشافي عوالم السرد الروائي.

أتذكر أن النقد البنّاء الذي تلقيتُه عقب نشرها، كان دافعاً لي كي أتعمق في فن الحكاية وتحسين أدواتي السردية.

 

*وهل توافقين من قال إنّ "يوميات تحت الاحتلال" يتلاقى مع مضمون رواية "عبور شائك"؟

- "يوميات تحت الاحتلال" هو بمثابة تسجيل حيّ للأحداث التي عايشتها بين عامي 2001 و2003، وما بعدهما... كنتُ أكتب تحت الحصار والنار، أنقل ما كان يحدث على الأرض في شكل يوميات ومذكرات حيّة". بينما "عبور شائك" هو عمل روائي يستند إلى تلك الأحداث، لكنه يغوص في تأثيرات هذه الأحداث السياسية على حيوات ثلاث شخصيات رئيسية في القدس. الرواية تتعمّق في دلالات تلك الفترة على المجتمع المقدسي، وتأثيرها على نفسية الأفراد وعلاقاتهم الاجتماعية، وفيها حفر وتصوير مقطعي، إن أردتَ، لأثر الأحداث السياسية المتعاقبة على المجتمع المقدسي، بتركيز أكبر على جيل الثمانينات.


*وبماذا تصفين مرحلة الانتقال من فلسطين إلى كندا؟

- لا شك أنّ انتقالي إلى كندا قبل سنوات حمل معه تحدّيات كثيرة على أكثر من صعيد. الحياة في هذا البلد، على الرغم من تنوعه الثقافي، تتطلّب التكيّف مع بيئة جديدة تماماً وزرع جذور جديدة لا تلغي ولا تستبدل هويتي وتجربتي. وباعتباري روائية عربية فلسطينية، كان لديَّ الدافع القوي للتفاعل مع المجتمع عبر الأدب والأنشطة الثقافية، مما ساعدني في بناء جسور بين تجربتي الشخصية وخبرتي في مجال العمل الثقافي. وفي أوتاوا أسَّست "شبكة ومؤسسة نواة للثقافة والفنون"، عام 2020، استطعت من خلالها بدء نواة فعلية لعمل ثقافي عربي يثري ويوفر منصة للإرث الثقافي العربي في المشهد الثقافي الكندي بشكل عام. ولأنني روائية وناشطة ثقافية فلسطينية، كنت أشعر بمسؤولية إضافية لأعمل كل ما يمكن من أجل ردم الهوة بين الإنتاج الثقافي والفني في العالم العربي والمتلقّي العربي في كندا".

 

* في رواية "عبور شائك" قد يجد القارئ في شذى شيئاً منك. فهل هذه الشخصية هي المعادل الروائي لشخصيتك الحقيقية؟

- قد تحمل بعضاً من تجاربي الخاصة وخصوصاً في فترة الانتفاضة الفلسطينية الثانية، لكنها بالتأكيد ليست صورة مباشرة لي. أنا لا أعمد في رواياتي، رغم اتسام أسلوبي بالواقعية، إلى وضع حياتي الخاصة على الورق. شذى تمثل الكثير من الشابات الفلسطينيات الباحثات عن ذواتهن بطرق مغايرة، مدفوعات بطموح وروح قيادية تميز شخصية المرأة الفلسطينية عامة.


*هل توافقين على تصنيف أدبك ضمن ما يسمّى بأدب المقاومة؟

- لم أقتنع يوماً بهذا المصطلح، رغم إيماني العميق بأن الأدب على أنواعه، أساسه المقاومة: مقاومة المحو والاختفاء. نحن كبَشر منذ اكتشفنا الغياب، اكتشفنا التسجيل، والأدب هو في روحه فعل مقاوم، ليس فقط من منظور الصراع السياسي بل من منظور إنساني أوسع. الأدب الفلسطيني يحمل في طياته تاريخاً نضالياً، "ولكنني أؤمن أن الكتابة أيضاً هي وسيلة للبحث عن الذات وإعادة تعريف الهوية في ظل الحقبة والظروف التي يولد فيها هذا الأدب. وفي حال الأدب الفلسطيني، فقد قُدِر له أن يكون وليد حِقبٍ متوالية من الاحتلال والقمع والمحو. الرواية الفلسطينية لا تزال بحاجة إلى جهد كبير، فهي تمثل هذا الموزاييك المستمر، لقصة شعب يحمل على كاهله ضمير الإنسانية برمته.

 

*أنتِ بدأتِ بالشعر قبل الانتقال إلى الرواية. ما الفرق بين التجربتين؟ ولماذا رجحتِ كفة الرواية في مسيرتكِ؟

-الشعر بالنسبة اليّ هو أكثر ذاتية، وأكثر ارتباطاً بالحالة الشعورية. أما ما جعل كفة الرواية أثقل لديّ من كفة الشعر، فهو الجانب الحِرَفي فيها، وما تحتاجه من هندسة في البناء السردي، وبناء الشخصيات والحبْكة، وما تحتاجه من غوْص في عتمات دواخلنا الإنسانية، وما تستدعيه من بحث وتعلّم. فالشعر عندي هو غالباً عبارة عن صوت شخصي، بينما شكَّلت الرواية سؤال الجدوى والفعل والمسؤولية في ما يتعلق بهويتي ككاتبة.

 

*يعلو اليوم الصوت الفلسطيني في الجامعات الأميركية. هل تخبريننا عن الفترة التي قضيتها في أميركا للدراسة؟ وهل عشتِ مثل تلك التحدّيات؟

 

- طبعاً واجهتُ خلال تلك الفترة تحدّيات كبيرة تتعلق بسياسات الجامعة التي دعمت الاحتلال بشكل واضح. كان عليَّ أن أرفع صوتي باستمرار، ليس فقط للدفاع عن قضيتي، بل لمواجهة السرديات الصهيونية المسيطرة على المشهد. كنت أحكي قصتي، لأننا كفلسطينيين لسنا أشباحاً تُمحى بسهولة من المشهد. شعوري العام في تلك الفترة كان شعوراً بالحاجة المستمرة إلى الصراخ وإلى إبراز هويتي الفلسطينية التي لم تكن موجودة في أي مكان حولي. أعطيك مثلاً، كل الطلبات والنماذج وقتها لم تكن تحتوي على خيار فلسطين. وهذا الغياب جعلني أكثر عناداً في إبراز هويتي. وفي هذا السياق أتذكر "حادثة خاصة"، عندما وضعت طفلتي الصغرى في أحد المستشفيات الأميركية، ورفضوا تسجيلها كمولودة فلسطينية؛ لأن فلسطين لم تكن مدرجة في قائمة الدول في نظام التسجيل. عاندتُ ورفضتُ لأكثر من يومين، حتى أجبرتُهم على الاتصال بوزارة الداخلية ليتمّ إضافة فلسطين إلى القائمة. وبالفعل، بعد مجهود طويل، أضافوها في غضون 5 دقائق فقط، وقاموا بحذفها مباشرة بعد إنهاء الطلب. بالنسبة اليّ، كانت تلك الدقائق الخمس، انتصاراً كبيراً.


*هل تجدين صعوبة في زيارة القدس الآن؟

- زرتها بعد مغادرتي لها بعامين، بقيت فيها ثلاثة أشهر قبل العودة لاستكمال متطلبات دراستي الجامعية في أميركا. الغياب عن هذه المدينة بالذات مع إجراءات المحو والتغيير الديموغرافي الممنهجة والمستمرة تجعلك تشعر باختلافها عليك كلما زرتها. فلا الشوارع ولا المفارق ولا ذكرياتك في زواياها تبقى في مأمن أمام جرافة المحو الاحتلالية. لعلًّ التركيز على منعطفات وزوايا الشوارع في رواية "عبور شائك" جاء من هذا الهمّ الذي تشعره كمقدسيّ إن غبت أشهراً قليلة عن المدينة لتعود وتجد الكثير فيها تمّ تغييره ومحوه. لقد زرتُ حيّ الزنار الذي تدور فيه معظم أحداث رواية "عبور شائك" في عام 2016، فوجدتُ أنّ كل ما أتذكره عن الحيّ قد اجتثّ وحوصر بحوائط إسمنتية بشعة حشرت الناس وفصلتهم عن امتداده السهليّ، الذي كان المتنفس الطبيعي الوحيد له. سدّت الجدران العالية الطريق لحاكورة الجِن، وشجرة الجميز ومغارة الصلاح وصخرة الزنار. كلها أماكن لن تجدها اليوم إلّا في رواية "عبور شائك"، حين حاول أطفال الحيّ مقاومة المصادرة والمحو بأياديهم الصغيرة. أعلم الآن أنني في كل عودة للمدينة، سأبحث مليّاً عن أحجار وأرصفة في الذاكرة، تحت كل خط شارع ومكعب وجدار إسمنتيّ احتلَّ تلك الأمكنة وحاول محوها. واليوم، ككاتبة، كتابة القدس المدينة هي هاجسي الأكبر.

 

*كيف تقومين الحضور الأدبي العربي من محيطك في المهجر، ولماذا الأسماء العربية غائبة عن جوائز نوبل مثلاً؟

جائزة نوبل، مثلها مثل أي جائزة أخرى، تتأثر بالسياسة والأجندات العالمية. أعتقد أن هناك الكثير من الأدباء العرب الذين يستحقون الفوز بها، وبما هو أكبر منها، إلّا أن الحيثيات السياسية تقصيهم عن قوائم الاختيار. منذ زمن وجائزة نوبل بالنسبة اليّ لا تعدّ معياراً لشيء، بقدر الموقف الأخلاقي المعلن للحاصل عليها. وأعتقد أنّ ثمة نهوضاً جيداً للحالة الثقافية العربية وبخاصة في مدينة تورونتو، وهو أمر مفهوم باعتبارها المركز الثقافي والاقتصادي الأهم في مقاطعة أونتاريو وفي كندا ككل. الحركة الثقافية العربية تتنوَّع بين المسرح والموسيقى والأدب والسينما وفنون الأداء والفنون البصرية بشكل عام، ولكن ما يميز الفترة الحالية هو اهتمام المجتمع الثقافي العربي بالتواجد والعمل على خلق حركة وحالة ثقافية عربية قوية لها حضورها وجمهورها وصوتها في المشهد الثقافي الكندي. مثلاً، يشكّل صالون "بيت الخيال"، الذي أسسه ويشرف عليه الكاتب التونسي كمال الرياحي، منصة مهمّة للتفاعل الثقافي في تورونتو، ويوفّر فضاءً للتواصل والنقاش ما بين الأدباء والفنانين العرب. أعتقد أنّ وجود فضاءات ثقافية متل هذه قد تحارب عزلة المنفى والانقطاع الجبري الذي تعرّض له الكثير من الكتّاب والفنانين من أماكن مختلفة من العالم العربي، إذ وجدوا أنفسهم في براثن اللجوء والتهجير القسري من بلدانهم الأم على مدى أكثر من عقد من الحروب والتحدّيات السياسية التي جثمت وتجثم على العالم العربي ككل.

اقرأ في النهار Premium