النهار

زيارة إِلى بيته في غيابه (1 من 2)
هنري زغيب
المصدر: بيروت- النهار
في عادة المبدعين أَن تكون لهم أَماكن محبَّبة يُنتجون فيها، يَخْلُدون إِليها جاهزةً، أَو هُم يجهِّزونها على مزاجهم وهواهم وطبيعة نتاجهم، فتغدو بعد غيابهم حضورًا دائمًا يجعلها متحفًا أَو مَزارًا أَو وُجهةً ثقافية أَو سياحية.
زيارة إِلى بيته في غيابه (1 من 2)
الحديقة
A+   A-

في عادة المبدعين أَن تكون لهم أَماكن محبَّبة يُنتجون فيها، يَخْلُدون إِليها جاهزةً، أَو هُم يجهِّزونها على مزاجهم وهواهم وطبيعة نتاجهم، فتغدو بعد غيابهم حضورًا دائمًا يجعلها متحفًا أَو مَزارًا أَو وُجهةً ثقافية أَو سياحية.
من هذه الأَماكن الخالدة: بيت الرسام الفْرنسي كلود مونيه Monet (1840-1926) في مدينة جيفرني Giverny (79 كلم غربي باريس، في منطقة النورماندي، جهةَ الضفة اليُمْنى من نهر السين)، وحول البيت حديقة كانت فضاءَ الرسام في امتشاقِهِ ريشتَه وملْوَنَهُ وأَنابيبَ أَلوانه وقماشتَه البيضاء وأَفكارَه، تَرجَمَها لوحاتٍ خالدةً وُلد معظمُها في تلك الحديقة فباتت مع البيت وُجهةً ثقافيةً يقصدها الآلاف سنويًّا من فرنسا وخارجها.
في هذا المقال من حلقتَين، سأَسرُد زيارةً إِلى عالَم مونيه، بيتًا وحديقةً، لاستشفاف أَجواء هذا الفنان العبقريّ. 
هنا الحلقةُ الأُولى من المقال:

 ميلُهُ منذ يفاعته
يعرف الآلاف في العالَم لوحات مونيه الانطباعية المزغرِدَة بزنابق الماء (النيلوفر) موسومةً برُقشات النور، ما يجعلك في إِحساس أَنه سيُطلُّ من الباب، من نافذة البيت، أَو من زاوية في إِحدى ثنايا الحديقة.
سيرةً: عُرف عن مونيه حبُّهُ الرسمَ في الخارج. فهو منذ يفاعته كان يتنقَّل من مدينة إِلى أُخرى على ضفاف "السين"، يرسم لوحاتٍ فائحةً دومًا بالزُهور التي، مع السنوات، غدَت رفيقاته وملهماته في أُويقاته المريحة، وخلاصًا في الأَوقات الصعبة من ضائقة مالية أَو نفسية.

المنزل بالإِيجار 
سنة 1883 انتقل مونيه بأُسرته إلى مدينة جيفرني الجميلة الهادئة، مستأْجرًا منزلًا تفترش محيطَهُ حديقةٌ عامرةٌ بأَشجار السَرو في الممرات السخية بأَشجار الفاكهة. مع ذلك كانت دون ما كان مونيه يرغب أَن تكون. لذا راح يعمل مع أَفراد أُسرته على تحويلها جنينةً (هنا: تصغير جنَّة) كما رغب أَن تكون: واحةً مزهرةً باهرة. بدأَ حول المنزل بزراعة زهوره المفضلة: دوار الشمس، الخشخاش الأَحمر، النرجس البري، بخور مريم، عشبة الصفصاف، وزهور مختلفة الأَنواع ملوّنة في كل زاوية.
وكان له من صديقه الرسام الانطباعي الآخَر غوستاف كايْبُوتْ Caillebotte (1848-1894) جارٌ عاونه في زرع البُذور، وتشحيل الأَغصان، وتنقية النباتات من الأَشواك، وترسيم جمال الحديقة زهرةً زهرةً وشجرةً شجرةً ونبتةً نبتة، حتى غدَت بعد تجميلها لؤْلؤَةً طبيعيةً نادرة.

شراء المنزل
في ثمانينات القرن، كانت شهرة مونيه بلغَت أُوروبا والولايات المتحدة وتحسنت أَحواله المالية، فاشترى عقار المنزل والحديقة معه سنة 1890. وترافقت مع هذا الاقتناء أَحوالٌ مرتاحة، فوظَّف مونيه بستانيَّيْن وقتًا كاملًا يعتنيان بالحديقة وكلِّ ما فيها، مع خيمة بلاستيكية ملحقة بها ملأَها أَيضًا  نباتات نادرة. واستأْجر قطعةَ أَرض مجاورة يَخْزُنُ فيها حبوب الفاكهة والخُضَر كي يُبقي في حديقته الأَزهار فقط دون سواها. هكذا راحت تتكاثر لوحاته عن أَزهار الحديقة ومن كل نوع فيها، حتى غدت حديقتُه امتدادًا للوحاته، لتكون له مع كل تفتُّح زهرةٍ جديدةٍ لوحةٌ جديدة. وحين اكتملت صورة الحديقة كما صمَّم لها، بالشكل الإِنكليزي المعروف للحدائق، راح يُمضي فيها معظم أَوقاته: حالِمًا أَو مفكِّرًا أَو راسمًا. صارت الحديقة جنَّته اليومية.   

 

بحيرة زنابق الماء
كانت خلف منزله، عبر الطريق العام، بقعة صغيرة فيها جسر خشبي صغير فوق مستنقع يَستعمل مياهَه الفلَّاحون لسقْي مواشيهم. فكان ذاك إِطارًا طبيعيًّا لقماشته البيضاء ومشهدًا مثاليًّا يوحي بحديقة شرقية راحت تشتهر على أَيامه وبعد غيابه بــ"بحيرة زنابق الماء".
لم يكن سهلًا عليه أَن ينتقل خلف المنزل ويعبر الشارع كلَّ مرة كي يبلغ "البحيرة"، فطلب من إِدارة البلدية أَن يشُقَّ من "البحيرة" معبرًا للمياه كي يسقي حديقته. وبعد مفاوضات مُضْنية وافقَت البلدية على أَن يمدَّ قناةً خفيةً تحت الطريق العام تنقُل المياه من البحيرة إِلى الحديقة. ومن يومها حتى وفاته (30 سنة)، أَنتج نحو 250 لوحة لصفحة المياه في بحيرة "زنابق الماء".
هذا عن الحديقة. أَما المنزل فكان كأَنه امتداد جماليٌّ للحديقة: كلُّ غرفة فيه حديقة افتراضية لكثرة ما فيها من لوحات موزعة فوق الأَثاث وعلى الجدران، كأَنما المنزل بُنيَ كي يكونَ على صورة الحديقة.
مجموع ذلك - منزلًا وحديقةً وامتدادًا حتى الجسر خلف المنزل - شكَّل ناحيةً خاصةً بمونيه أَمضى فيها سنواته الأَخيرة (1883-1926) وأَنتج فيها روائعَ لوحاته، فكانت نافذةً على عالَم تشكيلي من أَندر ما عرفه الفن التشكيلي في عصره.   

الحلقة المقبلة: أَضواء مُفصَّلة على المنزل والحديقة

 

اقرأ في النهار Premium