النهار

جيرار دوبارديو "الوحش" في عزلته: "وتبقى أفلامه أكبر منه"
شربل بكاسيني
المصدر: النهار
جيرار دوبارديو، ذلك الرجل الضخم الذي هوى من ذروة المجد إلى لجّة الخزي، وتحوّل لدى البعض رمزاً للعنف الجنسي والذكوريّة المتفلّتة، فيما آخرون شجبوا "إعدامه بلا محاكمة"، وعلى رأسهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
جيرار دوبارديو "الوحش" في عزلته: "وتبقى أفلامه أكبر منه"
جيرار دوبارديو. (حبيب فغالي)
A+   A-

هو واحدٌ من الوجوه المكرّسة "وحوشاً مقدّسة"، ورمز سينمائيّ فرنسيّ احتفظ بهالته لعقود. جيرار دوبارديو، ذلك الرجل الضخم الذي هوى من ذروة المجد إلى لجّة الخزي، وتحوّل لدى البعض رمزاً للعنف الجنسي والذكوريّة المتفلّتة، فيما آخرون شجبوا "إعدامه بلا محاكمة"، وعلى رأسهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

ليس دوبارديو شخصيّة يسهل كسرها، ولا يقبل بقصّ الأجنحة والتحجيم. وعلى عكس آلان ديلون صاحب المواقف التي وُصفت بـ"الرجعيّة والمعادية للمرأة"، والذي ابتعد عن الأضواء في سنواته الأخيرة، وبريجيت باردو صاحبة التصريحات المناهضة للعرب والإسلام، والتي أنهت مسيرتها بيدها في أوج عطائها، زاد دوبارديو وتيرة تصوير الأفلام، معتمداً انتقائيّةً لطالما ارتبطت بذوقه. كان ذلك إثر اتهّامه باغتصاب الممثّلة شارلوت أرنو في عام 2020.

رياح فأعاصير
باستثناء الحركات النسويّة، اجتذبت صراحة دوبارديو تعاطف الجمهور والزملاء. في أوائل التسعينات، كلّفته تصريحاته بشأن حالات اغتصاب، يُزعم أنّه تورّط بها في شبابه، مسيرته في الولايات المتّحدة التي كرّسها بصداقة وثيقة مع جون ترافولتا، إلّا أنّها لم تلقَ تأثيراً يُذكر في فرنسا آنذانك. ثمّ جاءت السنة 2023، سنة السقطة عن عرش السينما الفرنسيّة. وعندما وصفته "فتاة جيمس بوند" صوفي مارسو بـ"المفترس" في عام 2015، بسبب سلوكه العنيف في موقع التصوير، لم يترك كلامها أيّ وقع، ولم يجرِ التداول على نطاق واسع بوصفها إيّاه عبر "باري ماتش" بـ"المتربّص" الجنسي.

بدأت الأزمة مع بثّ وثائقي ضمن برنامج "كومبليمان دانكيت" على قناة "فرانس 2" العامّة، في أوائل كانون الأول (ديسمبر) 2023، تضمّن تعليقات مسيئة ومبتذلة من قبله بحقّ نساء، من دون أن تستثني إيحاءاته الجنسية فتاة صغيرة.

ذلك الذي جسّد بعضاً من كبار أبطال الأدب الفرنسي، من سيرانو إلى أوبليكس وجان فالجان، صار محطّ ازدراء واتّهامات. جدّدت مارسو انتقاده، مذكّرة بـ"ابتذال واستفزاز" طبع سلوكه، وتبعتها أنوك غرينبرغ. توالت الأحداث بسرعة أفقدته القدرة على التحكّم، وسرعان ما أفلتت الأمور. جُرّد من وسام كيبيك الوطني، وسُحب منه لقب المواطن الفخري في منطقة بلجيكية. حتّى تمثاله الشمعي نُزع من متحف غريفان الباريسيّ.

بُعد سياسي؟
صاحب تاريخ طويل مضطرب مع وطنه، أعلن دوبارديو، الحاصل على الجنسيّة الروسيّة، نهاية عام 2012، نيّته التخلّي عن جواز سفره الفرنسي، واختيار بلجيكا منفى ضريبيّاً. واقع جديد رآه مفروضاً عليه، مذكّراً بما أُشيع عن انهيار رومي شنايدر في الثمانينات بفعل التفتيش الضريبي الهائل في عهد فرنسوا ميتران. جاءت خطوته احتجاجاً على فرض الضرائب على الأغنياء، وتماشت مع تصريحاته الجريئة والحادّة، والتي باتت ملازمة لشخصيّته، تكاد تطغى على تاريخه وتُعرّف عنه بدلاً من أعماله، حدّ إبدائه الإعجاب ببعضٍ من الزعماء العالميّين المستبدّين.

اتّخذت قضية دوبارديو بُعداً سياسيّاً جديداً، يوم انبرى ماكرون للدفاع عن "الممثل العظيم"، في خضمّ واحدة من أعمق الأزمات السياسيّة في رئاسته، المتعلقة بقانون الهجرة الذي روّج له بدعم من اليمين المتطرّف. دان ماكرون "الاستهداف الجماعي" بحقّ شخصيّة "ساهمت في الشهرة العالمية لفرنسا"، منتقداً خطوة وزيرة الثقافة الفرنسية آنذاك ريما عبد الملك، التي أعلنت أن "إجراءً تأديبياً" سيُطلق لاتخاذ قرار في شأن وسام جوقة الشرف الممنوح سابقاً للممثّل.

وعلى خطّ الأزمة، انضمّ نحو 60 فناناً فرنسياً إلى المدافعين عن دوبارديو. وفي مقال نشرته "لو فيغارو"، شجبوا ما وصفوه بـ"إعدام بلا محاكمة". كما ندّد أفراد عائلة دوبارديو، ومنهم ابنته الممثلة جولي، بـ"مؤامرة غير مسبوقة" ضدّه، مشيرين إلى لقطات "مشبوهة" وردت في التقرير التلفزيوني.

"الوحش" في عزلته
منذ عام تقريباً، لم يظهر دوبارديو علناً. في الـ75 من عمره، وجد "الوحش المقدّس" نفسه معزولاً عن مهنة كانت قد أسبغت عليه الحماية، وسينما رأت فيه ابناً مدلّلاً سرعان ما تحوّل "ابناً شاطراً". أُزيح دوبارديو أخيراً بفعل موجة #Metoo التي اختار تجاهلها، واثقاً بحصانته.

ممثّلٌ لا يمكن تجاوزه، تميّز دوبارديو بفضل موهبة استثنائيّة في اللعب بخفّة على وتر الكوميديا والدراما بحساسية بالغة، دفعت النقّاد إلى تشبيهه بالممثل الفرنسي الأسطوري جان غابين، لجمعه بين البنية الجسدّية القويّة والرقّة.


"أفلامه أكبر منه"
عشرون عاماً من النجومية. كانت تلك الفترة كفيلة في صنع الأسطورة والحالة السينمائيّة الآتية من فرنسا كالإعصار لاجتياح هوليوود. بدأ نجم دوبارديو في الأفول منتصف التسعينات. فبينما أنهى تصوير آخر أفلام موريس بيالا، "الصبي"، توالى غياب المخرجين الكبار الذين أحبّهم. وتدهورت مسيرته الأميركيّة بعد اعترافه في مجلة "تايم" بمشاركته في حالات اغتصاب في شبابه.

ظلّ دوبارديو لسنوات محطّ تقدير زملائه الذين كانوا يتسامحون مع تصرفاته، لكنّه سرعان ما تحوّل من "وحش مقدّس" إلى "وحش بربريّ"، ينتظر المحاكمة في آذار (مارس) 2025 بعد تأجيلها أخيراً "لدواعٍ صحّية". يقول الناقد السينمائي صامويل بلومنفيلد، مؤلّف كتاب مشترك عن الممثّل مع رافاييل باكيه: "مسيرته انتهت... دوبارديو الممثّل أعظم من دوبارديو الإنسان، والأفلام التي شارك فيها ستظلّ أكبر منه".


اقرأ في النهار Premium