"عرشٌ على الماء" هو عنوان رواية المصري محمد بركة (أقلام عربية)، الذي ما زال يجرّب طرقاً مغايرة للسرد، تعتمد في الغالب على التشويق والإثارة، وغالباً ما تتكئ على "الواقع" مفضلاً مسارات خاصة جداً، ومعتمداً على التخييل وغرس نوافذه وفضاءاته المفتوحة على التأوييل والرمز. وقد اختار هنا الكثافة والحجب، متلاشياً الوضوح والبعد بالحكاية الروائية من مناطق الواقع المعيش أو حتى الأبعاد التاريخية، كما في روايته السابقة " حانة الست" عن رحلة سيدة الغناء العربي أم كلثوم، أو حتى في روايته الأقدم "الفضيحة الإيطالية".
اذاً، نلاحظ هنا استبدال الحكّاء (الكاتب/ السارد) لتلك الركائز في "عرش على الماء" حيث اتخذ الكاتب من "رمزية الماء" فضاءً واسعاً للتأويل.
فالمتن السيمولوجي/ السيكلوجي/ الأنثربولوجي كأنه صيرورة تتواشج فيها أزمة "مشهور الوحش"، الغائص واقعياً في ملذاته ونهمه وافتتانه بالنساء.
إنه يرى الماء "مطهراً" ورمزاً للتطهر والخلاص والنقاء، أو بمعنى آخر كأنه بديل للبغاء والغواية في رحلة البطل، أو صاحب الحكاية المتن.
يستهل المؤلف كل فصل بابتهال جديد على لسان الشخصية الرئيسية.
من هنا تتجلّى مراوحات السارد لاستكمال بنيتيه الرأسية والأفقية، حيث تتسع مساحات التهويم، وتلك الألعاب الفنية الذكية/ الماهرة، والتي أتاحت للراوي، الطعن في المسكوت عنه، من طلاسم وخبايا حجب "الثالوث المقدس (الدين والجنس والسياسة).
واللافت هنا أن الابتهالات لا تكشف عن حالة من السكينة و الإيمان والزهد، بل تبوح بما يعتري البطل من رغبات دنيوية تؤرقه كما في الابتهال الثاني "يا من جعلت الرعد همسك والبرق عصاك، أسألك بكل أدب وتوقير: لماذا خلقت قلبي شمعة واهنة تتقاذفها رياح النسوة؟".
أو الابتهال السادس "اللهم بحق اسمك الأعظم الذي إذا دُعيت به أجبت، أسألك أن تجعل لي من اسمي نصيبًا فيعرفني القوم كما يعرفون سعد زغلول ومنيرة المهدية".
التاريخي والواقعي
تبدأ الرواية بداية غير تقليدية تحمل نفساً شعرياً ممتزجاً بترقب وتشويق: "سأنتقم. وسيشهد عذابها طائفة من المؤمنين"...
هكذا نرى البطل "مشهور الوحش"، الذي أحبّ في شبابه "ست الدار" فأصابته بعقدة نفسية حين رآها تخونه مع منافسه على عرش الوجاهة الريفية وصديق طفولته اللدود.
يكبر الرجل وينتقم لاشعورياً من كل نساء الأرض من خلال الإغراق في هوس العلاقات الجنسية. تكتمل المفارقة حين يصادف عفاف ابنة ست الدار، التي تشبه أمها حد التطابق، فيقع في غرامها ويعتقد أنها أصبحت محظيته، لكنها تخونه هي الأخرى مع سكرتيره الخاص وكاتم أسراره (عزيز مصر)، فيقتلها.
سحر التأثير الديني
تتناول الرواية قصة صعود شخصية مشهور الوحش كداعية دينية يسيء استخدام مكانته الروحية في قلوب مريديه وجمهوره، ليظهر وجهاً نهماً للمال والنساء والسلطة والوجاهة الاجتماعية، كما أنه يتورط في أدوار سياسية مشبوهة ربما تضعه ضمن خونة الأوطان.
يعود النص إلى طفولة "الوحش" وكيف يكتشف سحر تأثير الزيّ الديني على المصريين، لكنه يتعرّض إلى طعنة غادرة حين يجد حبيبته تخونه جسدياً مع الغرباء، ما يصنع أزمة نفسية ثقيلة الوطأة تحدّد علاقته بالنساء طوال حياته.
تكشف الرواية عن جذور التطرّف الديني في مصر ومحاولات تغيير هوية المصريين وتوجيه بوصلتهم من التسامح إلى التشدّد، تحت مسميات واهية وشعارات مختلفة ترفع شعار "القداسة المزيفة".
المدهش في تلك الشخصية أن القارئ لا يستطيع اتخاذ موقف محدّد ونهائي منها للوهلة الأولى، فهي نموذج إنساني مكتوب برهافة على نحو يكشف تناقضات الرجل المصري/ العربي، وصراعاته الداخلية كشخص يطمع في ملامسة سماء التصوف والتجلّيات، لكنّ قدميه تغوصان في وحل الشهوة والماديات.
وكان أقرب مثال لهذا المسار الروائي الشائك، ما عالجه كاتب نوبل نجيب محفوظ في روايته "الشحاذ"، حيث سجّل- وسدّد وقتها- السهم الأول، في تلك الأزمة المحمومة، باللهث خلف النساء والجنس، كطريق للوصول إلى "الذات العليا" الله.
في كثيرٍ من مقاطع الرواية، يحمل السرد رهافة الشعر، بعاميته وفصاحته، موغلاً في الإيحاء والترميز، بالخفة/ والثقل، ورنين المفارقة وشجن الذكريات، كما في قول الراوي:
" ارمِ بياضك يا جدع.؟ أتذكرها الآن دون سابق إنذار، البدوية التي فاجأتني يوماً وأنا على الطريق الزراعية عائداً من دمياط في زيارة لقريتنا:أشوف الودع وأبيَّن زين".
محمد بركة روائي وقاص مصري، مواليد 1972، مدينة دمياط. يعمل صحافياً في مؤسسة "الأهرام" ويقيم في القاهرة.
حاصل على "ليسانس آداب وتربية" من جامعة المنصورة، قسم لغة إنكليزية، كما حصل على "دبلوم خاص" في الأدب الإنكليزي " من جامعة عين شمس. فاز بجائزة صحيفة " أخبار الأدب" المصرية للقصة القصيرة عام 1994، وكان أصغر المتسابقين سناً، في حفل توزيع الجوائز الذي حضره أديب نوبل نجيب محفوظ.
يصنّفه النقّاد ضمن أصوات التجديد في السرد الروائي، وغالباً ما تثير نصوصه جدلاً واسع النطاق. ومن أبرز أعماله "حانة الست"، " عرش على الماء"، "أشباح بروكسل". تُرجمت روايته "الفضيحة الإيطالية" إلى الإنكليزية، ويعدّ الباحث الهندي "ماهتاب عالم" رسالة دكتوراه حول أعماله تحت عنوان "تجلّيات العلاقة بين الشرق والغرب والأنا والآخر في روايات محمد بركة" في مركز الدراسات العربية والإفريقية في جامعة "جواهر لال نهرو" في العاصمة الهندية دلهي.