تختلف أسلاك السرد وتتفق في رواية "منسيّون بين ماءين" للكاتبة البحرينية ليلى المطوّع الصادرة عن دار رشم للنشر والتوزيع في المملكة العربية السعودية عام 2024، وهي الثانية لها بعد "قلبي ليس للبيع" الصادرة عن دار الفارابي في بيروت عام 2012. ما يعني أن اثني عشر عاماً تفصل بين الروايتين الأولى والثانية، وإذا ما علمنا أن الكاتبة بدأت العمل في روايتها الثانية عام 2016، وصرفت ثماني سنوات لإنجازها، نستنتج أنّها مقلّة، وأن هاجسها في الكتابة هو النوع وليس الكم. فهل تثبت القراءة صحة هذا الاستنتاج؟ أمّا الاختلاف بين الأسلاك السردية فيكمن في الطول والوظيفة والزمان والشخوص والأحداث، بينما يكمن الاتفاق في المكان الروائي والفضاء الواقعي السحري الذي ينتظم الأحداث.
وبمعزل عن الاختلاف والاتفاق، فإن الأسلاك تتقاطع في نقاط محدّدة، وتتعالق في ما بينها في علائق هي أقرب إلى التفكك منها إلى التواشج، ما يجعلنا إزاء بنية روائية ما بعد حداثية تتناول محتوًى روائياً ما قبل حداثي، وإزاء مفارقة كبرى بين الحكاية والخطاب الروائيين.
الطبيعة والإنسان
تتناول المطوّع في روايتها التحوّلات الكبرى التي تطرأ على العالم المرجعي للرواية، وهو مملكة البحرين، وهي تحوّلات تندرج في إطار العلاقة التاريخية بين الطبيعة والإنسان، وما يحكمها من عبث مجّاني ، يترتّب عليه انتقام الطبيعة من الإنسان، ودفعه الأثمان الباهظة. ولعل الإشارة الأولى إلى هذا العبث تكمن في عتبة العنوان، فالمنسيون بين ماءين يدفعون ثمن تموضعهم القسري في المكان وترجّحهم بين اليابسة والبحر. بينما تشكّل عتبة الإهداء العبارة الثانية عن العبث، فحين تهدي الكاتبة روايتها إلى "النوارس التي تعود ولا تجد بحرها ..."، تعبّر عن خلل في التوازن الطبيعي، يتمظهر في اختفاء البحر وعدم عثور النوارس العائدة عليه.
تحولات وعواقب
بالانتقال إلى المتن، نحن إزاء مجموعة من التحوّلات الناجمة عن عبث الإنسان بالطبيعة، وحسبنا الإشارة، في هذا السياق، إلى: إقامة الجزر الصناعية، ردم البحر، إهمال الزراعة، اختفاء البساتين، انتشار العمارة، فرار الأسماك، استيراد المحاصيل، فقدان ذاكرة المكان، إطاحة الأفلاج، طمر العيون العذبة، وغيرها.
ويترتّب على هذه التحولات عواقب وخيمة، تتمظهر، في المتن الروائي، في: انفجار العيون المفاجئ وابتلاعها الأطفال ولفظها جثث الكبار، انتقام البحر بتصديعه اليابسة، انفجار أرحام النساء الحبلى بالماء، وغيرها.
هذه التحولات والعواقب المترتبة عليها تضعها المطوّع في مجموعة من الأسلاك السردية المرتبطة بحقبات تاريخية مختلفة، وكل منها يتمحور حول شخصية محورية تتعالق مع شخوص ثانوية مكمّلة لها. على أنه إذا كانت السببية تطغى على تعالق الأحداث ضمن السلك الواحد، فإن تعالق الأسلاك في ما بينها يطغى عليه التفكّك، ولولا تمحورها حول الموضوع نفسه، وحدوثها في المكان الروائي الواحد، وتقاطعها في نقاط محدّدة، لأمكن القول بعدم وجود تعالق في ما بينها. على أنّه يمكن تقسيمها إلى سلك إطار يؤطّر الأسلاك الأخرى، وأسلاك محتوى يشتمل كل منها على حكاية مختلفة عن الآخر. وهو ما نفصله أدناه.
السلك الإطار
يشكّل المعيش والمسموع والمقروء مصادر الحكي في الرواية. وتقوم المطوّع بالتحرّك بين هذه المصادر/ الأسلاك/ الواقعات وفق آلية معيّنة تمليها اعتبارات السرد الروائي. وعليه، ترصد ناديا، الأستاذة الجامعية والصحافية والشخصية المحورية في السلك الإطار، التحولات الحاصلة في الجزيرة، خلال مئة عام، فتعاين المكان، وتقوم بالزيارات الميدانية، وتجري المقابلات مع المسنين، وتغوص في مياه العين، وتستخدم نوبات الصرع التي تنتابها لتقابل جدّتها الراحلة نجوى وتحصل منها على المعلومات، وتحادث الجني سنان، وتستعين بالدكتور آدم الذي يبتزّها للحصول على معلومات أيكولوجية، وتقوم بتلقيح النخلة الأخيرة في الجزيرة تامار، وتتوحّد بها في نهاية الرواية لتشكّلا معاً ذاكرة النخلات الخالدة.
وخلال تنكّبها هذه المهمة المركبة، تدفع الثمن بابتلاع العين ابنتها، واختفاء ولديها إلى حين، فتنتقم منها بردمها، ولا تلبث أن تعود إليها لاحقاً تنفيذاً لأوامر الدكتور آدم، في سبيل إكمال مهمتها. وهكذا، نرى أن ما تقوم به البطلة من أعمال يختلط فيها الواقعي بالسحري، والبشر بالجن، والحي بالميت، والحقيقة بالخرافة، والواقعة بالأسطورة، ما يضفي على المتن الروائي طابعاً ملحمياً بامتياز.
الأسلاك المحتوى
في الأسلاك المحتوى، يعود الأول إلى العصر الجاهلي، ويتمحور حول فرار سليمة التي يتربّص بها جنود الوالي للقبض عليها، بعد صلب زوجها الذي رفض تسليمها له، وتعرّضها لأهوال المطاردة والغرق والجوع والعطش، ووضعها جنينها في البحر، واقتفائها أثر الشاعر الجميل طرفة بين العبد، حتى إذا ما سقط في مبارزة مع مندوب الوالي تقدم على وطء جثته كي يكتسب جنينها القوة. وواضح من خلال هذه الأحداث تجاور المألوف والغريب في سلوك البطلة. وهو ما ينسجم مع الفضاء الجاهلي الذي تُمارَس فيه طقوس غريبة، تتمظهر في التضحية بالبنات استدراراً للماء، ورمي الحلي للبحر اتقاء الغرق، والامتناع عن قطف ثمار جزيرة معينة خشية البحر.
السلك الثاني في أسلاك المحتوى يعود إلى زمن سحيق قبل الميلاد، ويتمحور حول شخصية إيا ناصر. وباقتفاء هذا السلك، نقف على مجموعة من الأحداث الغريبة؛ فهو المولود جرّاء علاقة حميمة بين أمٍّ منذورة للمعبد يتناوب الكهنة على وطئها على مرأى من الجميع وأبٍ يحبّها ويتمّ إغراقه في البحر عقاباً له على إغواء امرأة وهبت جسدها للمعبد، وهذه الواقعة تحيل إلى سلطة الكهنة في الديانات الوثنية القديمة واستباحتهم كل شيء باسم الدين.
لا يختلف السلك الثالث الذي يعود زمنه إلى مرحلة ظهور المسيحية عن السلكين السابقين في تجاور الواقعي والسحري، وتجادل الوقائعي والغرائبي. ويتمحور حول يعقوب الذي يخضع مع آخرين لطقس تطهّر ليستحقوا الذهاب إلى الجزيرة، ولامتحان تَحَمُّل ليُقبلوا في الدير.
وإذ يسعى يعقوب إلى القداسة ويجتنب المحرّمات في محاولة منه لبلوغها، وهذا سلوك مسيحي بامتياز، يأتي قرار الأب الأكبر بأن يواقع النساء الواهبات أنفسهن للدير لتحسين النسل، وهو سلوك وثني، ليطيح مسعى يعقوب ويخرجه عن هدفه من الالتحاق بالدير، الأمر الذي يغضب البحر، فينتقم بالماء الذي تنفجر به أرحام النساء.
وبذلك، فإن يعقوب الرواية يفارق يعقوب التاريخ بإقدامه على ارتكاب الموبقات واستحقاقه عقاب البحر. وينسحب التجاور بين الواقعي والسحري على السلك الرابع الذي يتمحور حول درويش، صانع شواهد القبور المولع بالكتابة والنقش، وصاحب الشخصية الضعيفة، فيرشي البحر بالطعام ليفرج عن حمارته وعربته، وينقش على جسد زوجته النقوش قبل الدخول بها، ويفر مع النساء حين يغزو الغرباء الجزيرة ويشي بهن للجنود، ما يجعل منه موضع خجل الزوجة به وتنمّر الآخرين عليه. أمّا السلك الأخير في الرواية فيعود إلى زمن قريب من الزمن المعاصر، ويتمحور حول مهنا الذي يقوم بتعلّم الغوص واصطياد اللؤلؤ لتسديد دين أبيه للنوخذة الذي اقترن بأمه، ويحتضنه البحارة ولا يبخلون عليه بمعارفهم البحرية، وينخرط في علاقة حب مع شنانة العشرينية التي أخذ البحر طفلها تتكلّل بالزواج، وتكون ناديا بطلة السلك الإطار حفيدة له، ما يشكّل نقطة تقاطع بين السلكين.
عمل نوعي
هذه الأسلاك وتحوّلاتها تصوغها المطوّع بلغة سردية رشيقة، تؤثر الجمل القصيرة والمتوسّطة، وتمضي على رسلها في تدفّق موجي، وتعنى بالتفاصيل والجزئيات، وتتحرّك بين أنماط الكلام المختلفة، ما يضفي على المتن الروائي الرشاقة والحيوية والتنوع ويجعله موضع مؤانسة واستمتاع. وعليه، وبنتيجة القراءة، يمكن القول إن ما استنتجناه أعلاه صحيح إلى حدٍّ كبير، ولعلّي لا أغالي إذا ما قلت إن "منسيون بين ماءين" عمل روائي نوعي.