الخريف يُنعش وينتعش في مدينة أصيلة بشمال المغرب، حيث ارتأت مؤسسة منتدى أصيلة أن تنظم موسمها الثقافي في هذا الفصل عوض الصيف الحار والمكتظ بالسياح والمصطافين، اقتطعت جزءاً منه لأعمال الرسم والصّباغة في محترف يؤمُّه رسامون من كل مكان، لإنجاز لوحات حرّة، وكذلك للمواهب الناشئة يزيِّنون الحيطان الكبيرة العالية.
واليوم هو اختتام الموسم الجاري من المنتدى الذي بلغ من العمر خمسة وأربعين عاماً بقيادة مؤسسه ورائده وزير الثقافة والخارجية الأسبق محمد بن عيسى الذي أحيا مسقط رأسه من موات، وحوّل بلدة كانت في سبات وتعيش على الاتِّكال، إلى مدينة زاهرة ومحجٍّ عربي وعالمي مرّ وشارك في موسمها مئات الشخصيات من مشارب الفكر والأدب والفنون التشكيلية والمعمارية، فرؤساء دولٍ وأمناء عامين لمنظمات دولية وخبراء في سائر الميادين.
برنامج غنيٌّ متعددُ الاختصاصات والمحاور انفردت به الندوات والمحاضرات التي ينظمها المنتدى عامنا هذا في إطار جامعة المعتمد بن عباد الحرة، وامتد البرنامج من 13 تشرين الأول/ أكتوبر إلى 31 منه، من بين عناوين الندوات وتيماتها: "أزمة الحدود في أفريقيا: المسارات الشائكة"، "أوروبا: بين نوازع القوة والخروج من التاريخ"، "قيم العدالة والنُّظُم الديموقراطية"، "الذكاء الاصطناعي: أيُّ حكامة في أفريقيا في عصر الرقمنة"، "النُّخب العربية في المهجر: التحدي القائم والدور الممكن".
نتوقف هنا عند الموضوع الأخير لأهميته الراهنة القصوى، وقد تحولت الهجرة إلى ظاهرة عالمية، ذات انعكاسات اقتصادية وثقافية وإنسانية، فضلاً عن بعض أشكالها الكارثية. ويمكن إجمال ما هدفت إليه الندوة في دراسة الإشكاليات المتعلقة بالنخب العربية في بلدان المهجر وفق المحاور التالية:
1ـ الجاليات العربية، بين إيجابيات وضعها وسلبياته.
2ـ انعكاسات الوجود العربي الكثيف في أوروبا الغربية، وأميركا الشمالية والجنوبية على الفضاء الاجتماعي والسياسي والوطني.
3ـ مستقبل الحضور العربي في بلدان المهجر.
في التفاصيل اتجه الشاركون إلى صلب الموضوع بتحديد الفئة المعنية وهي فئة مميزة من أبناء وأجيال الهجرة، هي النخب أو النخبة، يُقصد بها جماعة أفراد يتمتعون بكفاءات متفوقة، وإمكانات مادية ومهنية جيدة، وأحياناً هم في مواقع القرار في البلدان التي هاجروا إليها وإما نشأوا وتعلموا في جامعاتها ومعاهدها، وأصبحوا مندمجين وفاعلين، وقادرين على التأثير حيث هم.
والأمثلة كثيرة في عديد الدول نخصّ منها الولايات المتحدة الأميركية، وبريطانيا وبعض أوروبا الغربية في بلجيكا وفرنسا، خاصة. ننبه كذلك إلى أن اهتمامنا هنا انصبّ على النخب المهاجرة العربية، من مشرق البلدان إلى مغاربها، يمثل الأوائل نسبتها العالية ولها جذور وتاريخ عريق سعى المتدخل اللبناني جورج سمعان إلى تتبع مساره وتصنيفه، وحدده في ثلاث هجرات:
الهجرة الأولى جرت في أواخر القرن التاسع عشر، مع ترحّل اللبنانيين والسوريين إلى أوروبا وأميركا وإلى مصر أيضاً، منجذبين لإغراءات الحداثة، ومن أجل التعلم والاستفادة من خبرات شعوب هذه القارات، وفي أميركا خاصة.
أنجبت الهجرة اللبنانية السورية وشكلت كيانات جمعوية تفاعل فيها الحضور بالأرض الجديدة مع الثقافة الأصلية وحضرت فيه مسألة الهوية حضوراً ملحوظاً ومركباً. لا بد أن نستحضر هنا الرابطة القلمية من خلال ميخائيل نعيمة وشخصية جبران خليل جبران، وآخرين كانوا رعايا أتراكاً في الأصل ونادوا بالإصلاح الديني وفصل الدين عن الدولة، ومنهم من حاولوا نقل تجربة الغرب ومكتسباته إلى البلدان العربية. في البرازيل تأسست (العصبة البرازيلية) نادت باللحاق بالحضارة الغربية.
الهجرة الثانية يؤرَّخ لها بدءاً من الأربعينات، دفع إليها الهروب من الاضطهاد الذي مارسته أنظمة وطنية وصلت إلى السلطة، وكان حافزها كذلك البحث عن الحرية والخلاص الفردي والتعليم، وهذا في أميركا الشمالية خصوصاً.
تلتها بعد عقود الهجرة الثالثة، حدثت بعد النتائج الوخيمة لما سُمِّي (الربيع العربي) اضطرت معه ملايين إلى الفرار بجلدها بحثاً عن ملاذات آمنة في أوروبا الغربية، ولا تعوزنا الأمثلة هي في ألمانيا وبلدان الشمال أبرزها، أشهرها، من سوريا والعراق.
في أميركا حققت الهجرات، حسب السفير الفلسطيني السابق حسن عبد الرحمن، نجاحات فردية من الجيل الثاني للمهاجرين هم الذين انخرطوا في الحياة العامة وعلى جميع المستويات.
من هؤلاء من تبنوا القضية الفلسطينية قضية عربية أولى، خاصة لما انتقلوا إلى مرحلة الوعي بأنهم أميركيون من أصول عربية فأصبح رأيهم أكثر تأثيراً من ذي قبل.
هناك هجرة أخرى ذات طبيعة مختلفة هي التي تمت من بلدان المغرب العربي أو الشمال الأفريقي بتحريض بل وإجبار في البداية من الاستعمار الفرنسي، وأسميها التهجير لأنها كانت قسرية استُخدم فيها المهجرون في الحروب الاستعمارية الفرنسية، وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، لإعادة الإعمار والاقتصاد، والمنحدرون منها اليوم يمثلون الجيل الثالث والرابع من ذوي الأصول المغاربية العربية والمسلمة وهم نخبة حقيقية في عديد مواقع ومسؤوليات رغم معوقات كثيرة.
في سائر بلدان المهجر، ومع التكوّن التدريجي للنُّخب فيها والشعور بفرادة مركزها، بدأت تجد نفسها عرضةً لمصاعب وفي قلب إشكاليات مستعصية، في قلبها إشكالية الهوية، بمعنى تنازع الانتماء بين بلد الإقامة أو الولادة، وبلد الآباء الأصلي.
وهو تنازع يأخذ مظاهر مختلفة ومأزومة من قبيل المعتقدات والانتماء والثقافة وقابلية الاندماج من عدمه. ويحضر الدين هنا بقوة، فسواء كانوا متدينين أو لا فهم محسوبون في عداد المسلمين ويخضعون لنظرة موحدة في البيئة الحاضنة، التي كثيراً ما تصنفهم بإجحاف خاضع لتقييم سياسوي للإسلام.
وفي السنوات الأخيرة استفحلت هذه النظرة بحشر العرب والمسلمين في مربع التطرف، تغذيها نعرة شوفينية وأخرى عنصرية كريهة تستشري الآن ولا تميز بين نخب وسواها ولها تمثيلات وانعكاسات في الحياة اليومية، بل أكثر من هذا نجم عنها ولادة ظاهرة جديدة أسميها (الهجرة المضادة) والتفت إليها دارسون وعلماء اجتماع فرنسيون، رصدوا كيف يعمد قسم كبير من أبناء الجاليات العربية المسلمة ممن ولدوا في فرنسا أو تجنسوا فيها وهم يحبونها إلى الهجرة نحو بلدان تعترف أفضل بكفاءاتهم ولا يتعرضون فيها للّمز ولا التمييز. لا بد أن نشير في هذا الصدد إلى الإحساس بضيق مجال حرية التعبير والارتداد على مبادئ حقوق الإنسان والقيم الكبرى الإنسانية في بلدان المهجر بعد عملية (طوفان الأقصى) والدمار الشامل الذي تعرض له قطاع غزة وآلاف الموتى، ما أحدث صدمة شديدة في نفوس الفئات العربية المهاجرة والمتجنسة، لقيت بسببه مضايقات شتى للتعبير عن مشاعر تضامنها، وأحياناً اتهامها لهذا السبب بـ(معاداة السامية).
هذا غيضٌ من فيض ما ناقشتة ندوة النخب العربية في المهجر في الدورة 45 من منتدى أصيلة ذي البرنامج الحافل، بمشاركة خبراء وأكادميين وكتّاب مغاربة عرب وأجانب، راهنت إدارته على القضايا الحيوية ونجحت في طرحها بناءً على الخبرة الطويلة وحنكة التدبير التي يمتلكها الأمين العام للمنتدى الأستاذ محمد بن عيسى يقدم سنوياً في المغرب بقدرات ذاتية محفلاً فكرياً وفنياً رفيعاً.