النهار

محمد منير في عيده السّبعين... "الكينغ" الذي تنازل عن تاجه!
محمد منير في عيده السّبعين... "الكينغ" الذي تنازل عن تاجه!
محمد منير
A+   A-


لحظة ظهور أوبريت "وطني الأكبر" كان هناك تدشين لجيل ذهبي، تتقدمه أسماء مثل عبد الحليم ووردة وشادية وفايزة ونجاة وصباح، ظل مرتبطاً بالحلم العربي.
انكسر هذا الجيل مع النكسة وإن ظل يقاوم، ما مهّد الطريق إلى ظهور جيل جديد، خصوصاً بعد رحيل أم كلثوم وفريد وعبد الحليم.
آنذاك شهدت السبعينات منعطفات حادة مثّلها أحمد عدوية في الغناء الشعبي. وفي أواخرها، انطلق شابان بمشروعين مختلفين نسبياً هما: علي الحجار ومحمد منير، قبل أن ينضم إليهما ـ بعد سنوات قليلة ـ عمرو دياب. 
بالتأكيد هناك أسماء كثيرة جديرة بالاحترام، ولكن ثلاثتهم هم أصحاب المشاريع الكبرى، والجماهيرية، والاستمرارية طيلة أربعة عقود.
قبل أشهر احتفل الحجار بعيد ميلاده السبعين، وهذه الأيام يحتفل منير ببلوغه السبعين أيضاً (مواليد أكتوبر 1954).
في العادة يتخلى المغني المصري عن خصوصية بيئته البدوية أو الصعيدية أو الفلاحية، ويندمج في إطار رسمي يخاطب المصريين جميعاً، لكنّ منير بلونه الأسمر، وشعره الأفريقي، ولكنته الخاصة، احتفظ وصدر دائماً هويته النوبية باعتبارها جزءاً من هوية مصر المتنوعة.
استثمر طويلاً في أغنيات وإيقاعات نوبية وسودانية، والسلّم الخماسي، واستعان في بدايته بملحن ومطرب نوبي مهم هو أحمد منيب (1926 ـ 1990)
كان بمثابة أستاذ ومعلم لمنير، فتح حواسه على طقوس النوبة في الميلاد والموت والحب والكفاح. وبرغم وفاته المبكرة نسبياً، لكنه يظل العلامة الفارقة في مشوار منير وملحن أجمل أغانيه: أم الضفاير، اتكلمي، افتح قلبك، الرزق على الله، الليلة يا سمرة، شجر الليمون، بعتب عليكي، سحر المغنى، سهيرة ليالي، سيلي، شبابيك، ع المدينة، عروسة النيل، عقد الفل والياسمين، في دايرة الرحلة.
لم تكن كلمات الأغاني نوبية بل شارك فيها شعراء كبار مثل عبد الرحيم منصور، وفؤاد حداد، وصلاح جاهين، وعصام عبد الله. ولكن لحنياً أعطاها منيب روح الجنوب، وأدائياً كرس منير تلك الروح.
كان الجنوب البعيد بمثابة بوتقة صهرت منير وألهمته ومنحته طابعه المميز، وأتاحت لجمهوره الاقتراب أكثر من تلك الثقافة وتعبيراتها وأنغامها، ولم يقطع منير صلته بها حتى بعد رحيل منيب، حيث قدم أغنيات مهمة من تراث الجنوب أشهرها "نعناع الجنينة".

التمرد الثاني
طبيعته الجنوبية خلقت ارتياباً بينه وبين تبنيه رسمياً، عكس علي الحجار الذي أصبح سريعاً الصوت المعتمد لمسلسلات التلفزيون.
يُضاف إلى ذلك إصرار منير على الظهور بقمصان وبنطلونات عادية، وشعر منكوش، ضارباً عرض الحائط بكل التصورات الكلاسيكية للمطرب العاطفي: البدلة الكاملة، وربطة العنق، وتسريحة شعر لامع، ووسامة تنضح بالصحة كما هاني شاكر ومحمد الحلو ومدحت صالح.
منير يلبس كأي شاب أسمر يعيش في حواري مصر، ما خلق ارتياباً فيه لأنه يكسر النمط السائد ويتمرد عليه. ولا يقف ثابتاً على المسرح كأنه جندي أثناء تحية العلم، بل يمسك المايك في يده ويتحرك بطول المسرح وعرضه.

إرث عبد الحليم
راح منير يزدهر خارج السياق الرسمي، وحفلات التلفزيون، وتأخر الاعتراف به نسبياً، خصوصاً أنه ضرب إرث عبد الحليم في كل أبعاده.
فهو أولاً ليس صوت الإجماع الوطني مثلما فعل حليم الذي وظف نفسه ناطقاً باسم الشعبي لدعم عبد الناصر ومشروعه. بينما منير يعبر عن شريحة جنوبية لا ينتبه إليها الكثيرون.
وثانياً لا يحرص على الأناقة الرسمية المبالغ فيها بل يظهر كإنسان عادي بعيداً عن أي تأنق.
وأخيراً لا يجترّ ثيمات الأغاني العاطفية المعتادة كالهجر واللوعة ونداء الحبيب، بل يقدم موضوعات إنسانية وصوراً شعرية مغايرة لا تخلو من غموض. فمن كان يتصور أن مطرباً مصرياً ـ بعد عصر عبد الحليم ـ يغني كلمات مثل:
"باصص على مين يا صديق
على طفل معاه مفتاح
يمكن يسقينا الشاي
يمكن يعطينا الناي
أنا قد الهوى وقدود
لو حتى الهوى نساي"
وكأن ثمة بلاغة شعرية منفتحة على الإنسانية كلها كما في أغنيته "حدوتة مصرية".

مناضل لا يدّعي النضال
ثمة تناقض في تقييم تجربة منير، فهو قدم موسيقى حقيقية وشعراً حقيقياً لأسماء كبيرة كانت بعيدة عن متن الأغنية المصرية مثل فؤاد حداد، وغنى مراراً لفلسطين:
"لو نسيت القدس تنساني أفراحي.. ينساني صباحي
تنساني الشموس.. وتنكرني النفوس
 وتنساني الشوارع والبيوت"...
بحسب شاعرها الراحل مجدي نجيب، فالأغنية لحنها هاني شنودة أواخر السبعينات، ومُنعت في عهد السادات  بسبب أجواء "كامب ديفيد" ولم تظهر إلا بعد عشر سنوات.
طبيعة خيارات منير الشعرية، واستناده أساساً على الراحل عبد الرحيم منصور (1941 ـ 1984) الذي تبناه واعتبره بمثابة ولده، إضافة إلى تمرد هيئته، وعدم التبني الرسمي له آنذاك. كل ذلك صنع هالة لمنير باعتباره صوت الثورة المقبلة.
لكنّ الحقيقة أن منير لم يدّع أنه ثوري أو معارض، ولم ينطلق في أغانيه من التزام سياسي كما في تجربة نجم والشيخ إمام التي قادتهما إلى السجن مراراً. بالعكس منير كلما زادت شهرته، وتغير المزاج العام، ازداد قرباً من المشهد الرسمي.
وكان هذا صادماً لشباب ثورة يناير، لأنهم تعايشوا مع أغانيه باعتباره أحد المحرضين والمبشرين بثورتهم، ومع ذلك لم يُسمع له صوت في "الميدان" على عكس مبدعين كبار كانوا قريبين من السلطة مثل عمار الشريعي وانحاوزا للشباب.
حافظ منير على وعيه بذاته كأيقونة فنية، وليس كمناضل سياسي. فهو كأي مطرب يقدم إعلانات تجارية، ولا يتردد في مدح رجال أعمال أثرياء. حتى محاولته لمصالحة الشباب ـ آنذاك ـ تمخضت عن أغنية حيادية:
"ازاي ترضي لي حبيبتي
اتمعشق اسمك، وأنتي
عمالة تزيدي في حيرتي".
كان ثمة انكشاف بأن المطرب الذي غنى لشعراء كبار أقرب إلى اليسار، وردد كلماتهم المحرضة عن القبح والنزعة الاستهلاكية وافتقاد الإنسان للمعنى، والنضال والانتصار للقدس، ليس يسارياً بالضرورة. 
صحيح أنه ليس مطرب أفراح الأثرياء ولا يُستدعى إلا قليلاً في حفلات الخليج، لكنّ هذا لا يعني أنه "مناضل ثوري"، ولا يتبنى بالضرورة المعنى الذي اختار أن يغنيه.

من الهامش إلى المتن
عبّر صوت منير وتجربته عن الهامش، وعن الغضب في مرحلة ما بعد كامب ديفيد، لكنه شيئاً فشيئاً رسخ نجوميته، وراح ينتقل بها من الهامش إلى المتن، ومن الشعبي إلى الرسمي، أصبح يشارك أكثر في غناء تترات المسلسلات وأشهرها مسلسل الأطفال "بكار"، ويقدم أغاني مناسبات وطنية ودينية مثل "مدد يا رسول الله" التي قدمها بعد أحداث 11 سبتمبر.
كان تدريجاَ وبحذر يتخلى عن الهالة اليسارية التي حوصر فيها، يبتعد عن شعراء مثل أحمد فؤاد نجم وكوثر مصطفى كي يغني كلمات ركيكة نسبياً، مثلما ابتعد عن ملحنين مجددين مثل أحمد منيب ويحيى خليل وهاني شنودة.
ابتعد عن الالتزام الثوري الذي لا يتبناه، وحتى الالتزام الجمالي الذي تفرد به، وبدا لمحبيه ومن يصفونه بـ"الملك" اقتباساً من ألبومه الشهير "الملك هو الملك"، أن أغانيه ومواقفه تتراجع. حتى مع تمسكه بأغنيات مقاومة مثل "يا فلسطيني ينصر دينك" (2023) فهي لا تقارن بأغنيته القديمة للقدس.
كان البريق في صوته يخفت، وذلك التوتر الحساس في نبراته، وهذا طبيعي بحكم السن. كما برز خداه وزاد وزنه هو من عاش نحيلاً، وبدا مرهقاً ومتعباً صحياً. هكذا ظهر في موسم الرياض، صحيح أنه اعتذر عن عدم المشاركة فيه عام 2019، لكنه ذهب عام 2023 وقدم حفلاً يلخص تجربته بعنوان "ليلة مشواري".
لذا تبدو تجربة منير معكوسة، بدأها من خصوصية فريدة، حافلة بالشعر والموسيقى والجنون والغضب، وعاشها "ملكاً" للهامش الغنائي.. لكنه خسر مبكراً أهم اثنين قدماه للساحة: عبد الرحيم منصر وأحمد منيب، ومن بعدها تراجع تدريجاً، وتسلل إلى أضواء المتن، دون أن ينتبه أنه فقد تاجه. أو بالأحرى، أصبح غير عابئ بالتاج الذي توّجه به دراويشه.

اقرأ في النهار Premium