النهار

بسطات الكتب العربية... غرام الثقافة قبل أرباح التجارة!
بسطات الكتب العربية... غرام الثقافة قبل أرباح التجارة!
مكتبة من سور الأزبكية
A+   A-

 

هبة ياسين- مصر

سها مصطفى- سوريا

بثينة عبدالعزيز- تونس

المُدن العربية الكبرى لا تُعرَف فقط عبر بواباتها التاريخية ومعالمها الأثرية وأبنيتها التراثية وفنادقها الفاخرة... تلك المُدن يُشار إليها أيضاً عبر مكتباتها العتيقة وتحديداً بسطات كتبها الشعبية الموزعة على أطراف المدينة، كأنّها زنازٌ ثقافيّ غايته حماية المكان من زحف الحداثة ومن محو الثقافة.

بسطات الكتب تفترش الطرقات لتحمي ذاكرة المدينة وحكايات أهلها. إنها تختزل- بفوضاها ورائحة أوراقها- عبق الماضي لتُحاكي عشّاق الكلمة، من أي مكانٍ أتوا وإلى أي مكان انتموا.

من القاهرة الى دمشق وبغداد فالرباط وفاس وتونس، نذهب في جولةٍ حول بسطات الكتب لنلامس جماليتها ونتعرف الى تحدياتها في ظلّ واقعٍ متغيّرٍ يُهدّد بتفاصيله الراهنة فكرة "الورق" ويُناهض مشروع الثقافة بمعناها المتعارف عليه.


 

سور الأزبكية... منارة الثقافة المصرية

على مدى أكثر من قرن، كان- ومازال- سور الأزبكية منارةً للثقافة وقبلةً لمحبي الكتب، هنا تشم رائحة الكتب وتستحضر عبق الماضي عبر الورق الأصفر القديم. تتجول "النهار " بين مكتبات السور التي تلاصقت في شكل أكشاك خشبية لا تخلو ممراتها من الزبائن الباحثين عن ضالتهم من الكتب في جميع التخصصات بأسعار زهيدة ومتفاوتة، جعلته أشهر أسواق الكتب المستعملة في مصر والوطن العربي.

يكتسب أهميته الثقافية والسياحية والتاريخية من عراقته وما يضمه من نفائس الكتب، فضلاً عن تواجده في منطقة تعد مركز إشعاع ثقافي على مدار تاريخها، إذ ضمت الأوبرا القديمة وتحتضن مسارح (القومي-العرائس والطليعة)، وكان زبائنه من كبار السياسيين والأدباء والفلاسفة وبينهم نجيب محفوظ.

كما يأتي في مرتبة تالية  لسور نهر السين في باريس، وهو يساويه في القيمة، فهو قبلة للمثقفين وباحثي  الماجستير والدكتوراه المصريين والعرب والأجانب  الذين يدرسون تاريخ وأحوال مصر بحثاً عن المراجع أو الإصدرات القديمة.

نشأة السور

بدأ "السور" عام 1907 في محيط حديقة الأزبكية، حيث القهاوي والبارات والمصالح الحكومية المترامية، فكان بعض باعة الجرائد والكتب يتجولون ببضائعهم في هذه المنطقة، واكتشفوا الأشجار الباسقة تلقي بظلالها خارج السور فاستظلوا بها، وافترشوا بمحاذاة سور حديقة الأزبكية ومن هنا اكتسب السوق اسمه، ولأنها منطقة حيوية تعرضوا لمطاردات البلدية، وخلال فترة الخمسينات، قرر الرئيس المصري جمال عبدالناصر تقنين أوضاعهم، وإنشاء أكشاك خشبية لهم تقيهم تقلبات الطقس.

في مكتبته، وسط أكوام من الكتب العتيقة والتراثية جلس "علي الشاعر"(74 عاماً) أحد أشهر وأقدم تجار السور، توارث المهنة عن والده منذ 60 عاماً كحال كثير من تجار السوق. تحدث لـ"النهار"  قائلاً: "الكتب تجارة رائجة لكن تراجع زبونها  بفعل سوء الأحوال الاقتصادية، ويضم السور كتباً متنوعة وبعضها نادر، وتتفاوت قيمتها وسعرها، وطبعات "بيروت" هي الأغلى سعراً نظراً لجودتها المرتفعة".

يعتبر "الشاعر" أن أفضل فترة لـ"سور الأزبكية" هي خمسينيات وستينيات  القرن الماضي نظراً لأن عبدالناصر أولاه أهتماماً خاصاً، إذ كان قارئاً ومثقفاً، كما شهدت مصر نهضة ثقافية وزخماً معرفياً وحفلت بالفلاسفة والمفكرين والأدباء.

تحديات

يواجه "السور" تحديات عدة، بعضها بفعل التطور الطبيعي للزمن وبينها انتشار الكتب الرقمية وتطبيقات القراءة الإلكترونية، لكن بالتأكيد سيظل هناك فئة تجد متعتها في القراءة الورقية، لكنها تظل قليلة ولن تساند هذه الصناعة، وثمة تحديات بسبب مشاكل أبناء المهنة أنفسهم، إذ يرحل تدريجياً الأعمدة الأساسية لها بفعل تقدم العمر، وكان أشهرهم عم حربي، بجانب هجرة بعض أرباب السوق الأصليين لأعمال أخرى بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية، وتركوا مكتباتهم لعمال وباعة جدد. وثمة أسباب تخص الحكومة وانتقال مكتبات السور بشكل دائم، بجانب التراجع الكيفي في صنعة الكتابة التي أمست ركيكة.

وعلق "علي الشاعر" قائلاً :"50 في المئة من المترددين على السوق أحجموا عنه ويكتفون بالقراءة الرقمية لانخفاض أسعارها والقليلون يقبلون على الشراء لأنهم يسهتويهم الكتاب الورقي، فتجارة الكتب القديمة لم تعد رائجة، فمنذ الصباح لم أبع كتاباً، إذ نعاني بعض الركود بسبب تأزم الأحوال الاقتصادية".

رغم التحديات استطاع "سور الأزبكية" الحفاظ على استمراريته وسط كل هذه التقلبات لأنها أجيال الراية لأجيال أخرى.

عيد عثمان (67 عاماً)، أحد أقدم تجار السوق من القاهرة، ورث هذه المهنة أباً عن جد ويعمل فيها منذ 1960. يبث شكواه "لـ"النهار" قائلاً: "يواجه "السور" عدم الاستقرار ولا تمنحه الحكومة الاهتمام اللائق، إذ نتعرض للانتقال كل فترة. لكن لا يرى عثمان أن "السور" مهدد بالزوال ويغمره اليقين أنه سيستمر في صموده، لكونه من معالم القاهرة الثقافية.

بينما يتحدث عماد مسرح- أحد تجار السور منذ 40 عاماً لأ"النهار" قائلاً: "مهنتنا متوارثة، جيل يسلم الراية لآخر، وضاعفت زيادة السكان عدد المترددين على السوق".

أسس تجار السور "جمعية مكتبات سور الأزبكية للخدمات الثقافية"، وهي "رابطة" ينحصر دورها في توفيق  أوضاع المكتبات مع المصالح الحكومة، فهي الواجهة في المصالح والمعارض الداخلية والخارجية.

يرى عضو الرابطة  خالد هاشم محفوظ  أن أحد هذه  التحديات هو الغلاء والظروف المعيشية الصعبة فأصبحت الكتب سلعة ترفيهية وتأتي القراءة في ذيل الأولويات.

بسطات الكتب الراسخة والعريقة على مستوى القاهرة هي سور الأزبكية  الذي يضم نحو 132 مكتبة، وأبو الريش في منطقة السيدة زينب تضم نحو 40 مكتبة، وهناك أسواق أخرى لكن تظل محدودة مثل بسطات بيع الكتب المتفرقة في منطقة الإسعاف (وسط البلد)، وأخرى بمحاذاة سور جامعة القاهرة، واستجدت تجارة الكتب في سوق ديانا لكنه سوق لتسليم الكتب، إذ يتم التسويق والبيع عبر الإنترنت، كما يوجد سوق للكتب في شارع النبي دانيال بالإسكندرية.

 

شارع المتنبي... هوية بغداد الثقافية

حين تقول بغداد لا بد أن تذكر شارع المتنبي. أما أهمية هذا الشارع التاريخية فهي في قيمة كتبه وكنوزه المعرفية المتوزعة على الأرصفة بأسعار معقولة أو ربما زهيدة.

كتب قديمة، مهمة، متنوعة تقدم عزاءً للقارئ الباحث عن شيء جميل وسط كل الظروف الصعبة التي تحدث حوله.  إنه ملجأ لكثير من الناس على اختلاف انتماءاتهم وطوائفهم واهتماماتهم، سواء أكانوا من الطلاب أو الباحثين أو الأساتذة أو هواة القراءة.

بسطات الكتب ظاهرة قديمة في العراق لكنها راجت في تسعينيات القرن الماضي مع الحصار، بحيث غدا الكتاب هو ملاذ الجميع، باعتباره فرصة للسفر الروحي والاكتساب المعرفي والتفاعل اللغوي.

رغم كلّ الظروف والتبدلات التي طرأت على العراق، ظلّ شارع المتنبي هو المعادل لهويتها الثقافية ومركزيتها الثقافية.

 

 

نهج الدباغين: نوستالجيا وتحديات!

سوق الدّباغين هو سوق شعبية لبيع الكتب المستعملة، كان مخصّصاً لدبغ الجلود قبل أن يتحوّل بعد الاستقلال إلى محلاّت تجميع الكتب القديمة وبيعها وهي تعدّ بالآلاف. يشبّهه بعض زائريه من الدول العربيّة بشارع المتني في العراق والأزبكيّة في مصر.

في سوق أو "نهج الدّباغين"، كما هو الاسم المتعارف عليه، تجد آلاف الكتب متراصّة في الدّكاكين وخارجها حيث تبسط على الأرصفة، كلّ العناوين متاحة؛ العلمية والأدبيّة والدّينية وبكلّ اللغات، كما تجد المخطوطات النّادرة وهي ملاذّ الطلبة والأساتذة وعشّاق القراءة عموما، بل هي الفضاء الذي يستقطب عشّاق القراءة من كلّ المحافظات في تونس.

في هذا المكان الممتدّ بعمق الثّقافات والحضارات التي يحملها فوق رفوف كتبه، تنشأ علاقة وجدانيّة بين البائع والكتاب والكتاب والقارئ. قد يكون هو المكان الوحيد الذي يتبنّى فيه جميع الباعة هذا التّصور: "بيع الكتب غرام قبل أن يكون تجارة". 

يقول السيد علي: "كنت من رواده في أواخر التسعينيات عندما كنت طالباً في الجامعة. هذا السوق كان له الفضل في تكويننا العلمي حيث إن الكتب الجديدة باهضة الثمن ولا نقدر عليها فكان نهج الدباغين ملاذنا وكنا نجد فيه ضالتنا".

وتقول سنية: كنا نشتري الكتب والروايات في الأدب الفرنسي من هنا... وأكثر ما أحبّ هي رائحة الكتاب واللون الأصفر للصفحات.

تقول حنان: "أخذت كتابا بعنوان "المنصف باي" ب 5د وأعتبره اليوم بمثابة كنز يسوى 5 ملايين. هو أغلى كتاب عندي من حيث المحتوى، اشتريته من مكتبة تبيع الكتب القديمة في الدباغين ولكنها أقفلت للأسف".

ما لفت انتباهنا في حديث القرّاء هو هذا الحنين للمكان والغرق في الماضي وهم يستحضرون تفاصيل من الماضي وكلّ ما له علاقة بنوستالجيا المكان وكأنّه لا وجود لنهج سوق الدباغين اليوم أو لعلّهم يستبطنون خوفهم على السوق ومصير هذه الآلاف من الكتب التي أكلتها الرّطوبة وتحاول أياد مرتعشة المحافظة عليها رغم كلّ الظروف.

نحو 30% من مكتبات نهج الدباغين أُغلقت... ولا خطة إنقاذية رسمية

لنبدأ من قصّة مكتبة عم خالد التي تضم آلاف الكتب في ثلاث طبقات،  وهي من أكثر المكتبات قدماً في السّوق إذ تعود إلى سنة 1978. تحوّلت هذه المكتبة بعد موت صاحبها من شهور.

صحيح أنّ قطاع الكتاب والنّشر في تونس كما العالم العربي يعيش وطأة التغيرات الحاصلة في ظلّ البيئة الرّقمية واكتساح أدوات الإتّصال الجديدة، وانتشار القرصنة وتحميل الكتب pdf ولكن هذا لا ينفي إهمال هذا الفضاء والتّعامل معه من ضمن الزّوائد التي يمكن التخلّص منها.

بعد ما يعرف بالرّبيع العربي والظروف التي عاشتها البلاد وبعد أزمة الكوفيد، تراجع الإقبال على هذه السّوق وهو ما فرض على بعضهم إغلاق محلاّتهم وربّما أكثر من 30 بالمائة من المحلاّت قد أغلقت بالرّجوع الى تصريح للعمّ خالد سنة 2023. عدا ذلك فإنّه يبدو لا وجود لأيّ مبادرات للحفاظ على هذا المكان بغياب السّياسة الثقافية وتركيز المستثمرين أو المشترين الجدد على "الأكل" وتجارة الصّيني.

 

بسطات الكتب في المغرب: 200 سوق للكتب المستعملة!

يوجد في المغرب أكثر من  مئتي سوق للكتب المستعملة، تنتشر في المغرب مكتبات الأرصفة مثل: "سوق لقريعة" و"سوق درب غلف" و"حي البرنوصي" و"سوق البحيرة" وسوق الليدو". وتعرف مراكش بسوق باب دكالة وباب الأحد.

ويعتبر سوق ساحة السراغنة، من أكثر الأسواق شهرة في المغرب حيث يضم نحو 300 ألف عنوان ويحتضن سنويّا مهرجانا للكتاب المستعمل. وتستقطب الأسواق المغربية حرفاء من الخليج ومن عمان ومن الأردن، وخصوصاً من يبحث منهم عن المخطوطات النّادرة.

سنة 2020 تعرّضت أكشاك لبيع الكتب المستعملة في المدينة مرّاكش إلى حريق ألحق أضراراً كبيرة، وهو ما كان سببا لإطلاق حملة: "ألو عندي كتاب"، وتتمثّل هذه المبادرة في التبرع بالكتب القديمة للباعة.

تعمل بعض المكتبات في مراكش على استثمار البيئة الرقمية، فنجد صفحة اجتماعية فايسبوك لمكتبة دكالة تهتم بالترويج للكتب تعرف كالتالي: "سوق ساحة باب دكالة لبيع وشراء الكتب المستعملة والجديدة توفر لكم مجموعة من الروايات وكتب التنمية الذاتية والمالية والأدبية والعلمية والفلسفة بأثمان جد مناسبة للطلبة والقراء".

ولا تسلم أسواق الكتب المستعملة من الأزمة الموجودة ربّما في بقيّة الأسواق العربيّة على اعتبار التقاطعات في أزمة الكوفيد وانتشار الكتب الإلكترونية وغيرها.

 

دمشق تستبدل المكتبات بحقيبة سفر!

في دمشق تشبه بسطات الكتب على الطريق حياة الناس في الحرب: كتب محملة بالذكريات من بيوت انتهت بدمارٍ مركون الأرصفة.

كل كتاب يحملُ حكايةً من منزل دمرته الحرب أو هجرت أبناءه أو قطعت أوصاله. بعض تلك الكتب حالفها الحظّ بأن تُحفظ في أهم البسطات التي تحوي باقة كتب متنوعة وقديمة جداً.

بسطات يمكنك أن تجد فيها نسخاً فريدة لكتب تاريخية مهمة تعود إلى عام 1900، وأخرى تراثية قديمة. هذه البسطات بأسعارها البسيطة حفرت مكاناً لها بين الناس والطلاب الباحثين عن مراجع علمية بالقرب من جامعة دمشق "أسفل جسر الرئيس"، وهي أرخص سعراً وأكثر رحمة بجيوب السوريين لأنها مستعملة كحياتهم المتعبة.

قبل شهر تشرين الأول/ أكتوبر كان هناك في قلب العاصمة معرض صغير مستمر للكتاب عند الجسر، فيه نحو مئة ألف كتاب سبق أن وضعت لهم محافظة دمشق مدرجات حديدية للعرض. ولكن في 16 من الشهر جرفتها بلدورز المحافظة بلا رحمة بعدما أنذرت المعنيين بالإخلاء خلال ساعتين. المكان فارغ اليوم ولا أثر للكتب وأصحابها الباعة ووجودهم الحضاري.

خبر الترحيل هز رواد البسطات رغم وعود المحافظة بنقلهم إلى مكان آخر، هؤلاء الباعة باتوا أصدقاء لهم وهؤلاء لم ينسوهم حتى في غربتهم كما فعل العديد منهم على مواقع التواصل الاجتماعي منتقدين القرار، بعض الباعة كانوا شاهدين على تاريخ المدينة مثل صلاح صلوحة شيخ الوراقين، الذي توفي في 2019 بعدما تنقل من مكان إلى آخر ببسطة كتبه التي تبقت له بعدما حرق التكفيريون مستودع كتبه في ريف دمشق.

الإخلاء الأخير دفع مجموعة من المثقفين السوريين من ضمنهم الناقدة ديانا جبور والمخرج محمد ملص والروائي خليل صويلح وغيرهم الى توقيع بيان يطالب وزارة الثقافة بالحفاظ على البسطات الثقافية بوصفها "رئة للمعرفة"، فهي ملاذ أجيال من الطلاب والباحثين عن الكتب والمراجع من التراث إلى الشعر العربي وكلاسيكيات الأدب المترجم والمسرحيات الإنكليزية وغيرها بأوراقها القديمة.

كل ذلك انتهى الآن، وهو جزء من مشهد أوسع لتغييرات تجري في المدن السورية عقب الحرب، فالمكتبات الشهيرة واكبت إيقاع اقتصاد الأزمة والحصار وأغلقت أبوابها مثل مكتبة نوبل واليقظة وميسلون وغيرها وحل مكانها محال صرافة ومحال بيع ملابس وأحذية...

وفي اللاذقية المكتبة التي كانت تتوسط قلب المدينة في شارع هنانو والتي كانت "أقله" تفرد الصفحات الأولى لجريدتي الحياة والسفير على واجهتها الزجاجية، اختفت وحلّ مكانها محل لبيع حقائب السفر بأحجامها الجاهزة لابتلاع الذاكرة؛ إذ أن موسم الهجرة لم ينتهِ بعد.

 

 

 

 

اقرأ في النهار Premium