إذا ما أردنا أن نرسم صورة مُستعادة- حاضرة في الذكرى الثالثة لرحيل صباح فخري التي تصادف اليوم في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني، علينا أن نبدأ بصوته القوي وأسلوبه المميز الذي له وقعٌ آسر يشبه تأثير الصناجة أو الآلات التي كانت تستخدم لإضفاء البهجة والطرب في العصور القديمة. ولذلك لُقب بـ"صناجة العرب" تقديراً لموهبته الفائقة وإتقانه لأداء الموشحات والقدود الحلبية.
ينقلنا فخري في كل وصلة موسيقية من وصلاته، وهو يشدو "خمرة الحب، قدك الميّاس، يا مال الشام" وسواها الكثير، إلى بساتين الطرب العتيق، يجعلنا نعيش لحظات من السحر والأصالة، متشابكةً كأوتار العود التي يعبث بها بحنان، ومثل قصائد التراث التي تتردد على لسانه كأنها ولدت للتو. حتى إن الموسيقار محمد عبد الوهاب قال عند لقائه الأول به: "مثلك بلغ القمة، ولا يوجد ما أعطيك إياه"، عندما سمع صوته مندهشاً.
يُضاف إلى ما سبق، حضوره المسرحي وقدرته الاستثنائية على التواصل مع الجمهور. كان فخري يعرف متى يتحرك وكيف يعبر بجسده وإيماءات يديه عن مضمون الأغنية. تلك التفاصيل الصغيرة، كالرقصات التي يؤديها وهو يغني، كانت تضيف بُعداً بصرياً مبهراً لأدائه وتجعله أكثر جذباً وفاعلية. ولعلّ هذا التفاعل العفوي كان سرّاً من أسرار شعبية فخري المستمرة لسنوات طويلة.
كان فخري مُعتداً بصوته، حريصاً عليه، فاختار ارتداء وشاح حول رقبته لحمايته من التيارات الهوائية، وحرص على تناول العسل مع الأعشاب التقليدية للمساعدة في إراحة حباله الصوتية.
مؤسسة موسيقية
حمل فخري حلبَ في قلبه وروحه أينما حلّ شرقاً وغرباً، جعل من "قدودها" نشيداً خالداً يعبر القلوب دون استئذان. يرددها بصوته العميق الرفيع، فنشعر وكأن الأرض تتراقص تحت قدمية والسماء تتوشح ببياض حجارة قلعتها وحرير ذائقة أهلها المتطلبة دوماً.
وكانت لمسيرة فخري الفنية الطويلة التي بدأت مبكراً في سن الخامسة عشرة، وأرشيفه الغنائي الذي بلغ 160 لحناً وأغنية وقصيدة ودوراً وموشحاً مما تنفرد به المدينة الشهيرة، الأثر الأهم في تكريس "القدود الحلبية" على لائحة التراث الثقافي غير المادي لليونيسكو في ديسمبر/كانون الأول 2021.
أحيا فخري تراثاً موسيقياً كان في طريقه إلى لاندثار، حيث جاب بصوته القوي مسارح كبرى حول العالم أهمها (قاعة نوبل للسلام في السويد، قاعة بيتهوفن في بون الألمانية، قصر المؤتمرات في باريس، قاعة رويس في جامعة U.C.L.A الأميركية) تكريماً لإسهاماته في نشر التراث الموسيقي.
ذكر فخري الكثير من مشاهير الفن والأدب والسياسة في العالم العربي، فقال عنه الشاعر نزار قباني في مقابلة عام 1980: "صباح فخري ليس مجرد مطرب؛ إنه مؤسسة موسيقية قائمة بذاتها، يحمل في صوته تاريخًا من الجمال والأصالة".
واعتبر الفنان اللبناني الراحل وديع الصافي في مقابلة تلفزيونية عام 1990 أن فخري يُعد مثالاً للفنان الملتزم الذي يتمسك بالأصالة ويعبر عن التراث بأسلوبه الفريد قائلاً: "صباح فخري هو مدرسة في الطرب، تعلمنا منه كيف يكون الالتزام بالفن والتراث".
وكرّم الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة صباح فخري بوسام الثقافة عام 1975. وقال عنه خلال التكريم: "لقد أضفى صباح فخري على الفن العربي بُعداً جديداً، وأعاد إحياء التراث الموسيقي بروح معاصرة".
جذور صوفية
نشأ صباح أبو قوس، في مايو/أيار 1933 في مدينة حلب القديمة، لأسرةٍ ذات توجهات كلاسيكية دينية عريقة. كان والده، المقرئ والمنشد الصوفي، يصطحبه إلى "مسجد أتروش" في الحي المجاور، حيث كانت تقام حلقات الذكر والإنشاد الصوفي على "الطريقة النقشبندية".
التحق فخري بعد ذلك، بمدرسة القرآن الكريم، ثم أصبح مؤذناً يرفع الأذان في الصلاة في "جامع الروضة". وبدأ حياته الفنية في "باب النيرب" الحلبية، محاطاً بأساتذة الطرب - الموسيقى الكلاسيكية والفولكلورية أبرزهم: الشيخ عمر البطش، محمد رديف، وصبحي الحريري.
هذه المدرسة غالباً ما توحي بحالة من النشوة المرتبطة بالطقوس الدينية وبين ملحني ومؤدي النوع الموسيقي الحلبي الشهير المعروف باسم "القدود"، والذي يُغنّى فيه الشعر القديم بألحان دينية إيقاعية مستوحاة من الصوفية. لكنّ إضافاته الموسيقية الحداثية لاحقاً التي ظهرت في موشحاته الغزلية- تحديداً قُل للمليحة- جذبت عنصر الروحانية إلى الحُب.
أنشد فخري وهو في سن المراهقة أول موال له "غرّد يا بلبل وسلّ النّاس بتغريدك" في سن الخامسة عشرة، الذي علمته إياه إحدى صديقات والدته. ثم تتلمذ بعد ذلك على يد الملحن محمد رجب، الذي أعجب بموهبته ومقدرات صوته، وليعلمه فن الموشحات التقليدي أبرزها موشح "يا هلالاً غاب عنّي واحتجب".
الأب الروحي
تعرّف فخري مع نهاية الأربعينيات على الملحن وعازف الكمان الشهير سامي الشوا، مطلع عام 1947، وصحبه في عروض فنية داخل سوريا. أطلق عليه الشوا اسم "محمد صباح"، ونصحه بالتوجه نحو مصر "مركز صناعة الموسيقى العربية"، والتعرف على كبار ملحنيها أمثال محمد القصبجي والموسيقار محمد عبد الوهاب، لكنّ القدر وضعه بين يدي السياسي المخضرم والشاعر "فخري البارودي" عام 1947 بعد انتقاله الى دمشق ولم يكن معه سوى التزام متجدد بالموسيقى وسجادة صلاة، كما قال في مقابلة معه.
أدرك البارودي على الفور موهبة المغني الشاب وتعهد بمساعدته في إطلاق مسيرته فقال عنه: "صوت هذا الشاب يحمل في طياته تراث حلب الموسيقي، ويستحق أن يُسمع في كل أرجاء الوطن العربي".
أدخله حينها إلى "المعهد الموسيقي الشرقي" في حي ساروجة الدمشقي لصقل موهبته، وعمل كمؤد للأغاني التراثية في إذاعة دمشق أبرزها مشاركته في العمل الإذاعي "زرياب".
ورتب له البارودي أداءً في القصر الرئاسي، أيام حكم شكري القوتلي في عام 1948، وكان فخري قد حقق بالفعل بعض الشهرة المحلية. لم يكتفِ فخري بإبهار القوتلي، بل بدأت نخب المجتمع تلتفت إليه. ومن هنا جاء تغيير الاسم من صباح الدين أبو قوس إلى "صباح فخري"، تكريماً لراعيه فخري البارودي.
الغناء الماراثوني
شكّل عام 1960 محطة مهمة في حياة فخري، هو الذي كان من روّاد التلفزيون السوري مع بدء انطلاقته، مقدّماً للسهرات الغنائية، إضافة إلى مشاركته في عمل "أسماء الله الحُسنى" إلى جانب عبد الرحمن آل رشي وزيناتي قدسية ومنى واصف. وشارك أيضاً، في مسلسل "الوادي الكبير" مع الفنانة وردة الجزائرية.
وشهد عام 1965 مشاركته السينمائية في فيلم "الصعاليك"، بجانب كل من دريد لحام ومريم فخر الدين ونهاد قلعي وأخرجه يوسف معلوف.
تميز فخري بـ"غنائه الماراثوني"، ليدخل عام 1968 في العاصمة الفنزويلة كاراكاس موسوعة غينيس للأرقام القياسية بأطول حفل موسيقي استمر لعشر ساعات دون توقف، حيث أدى فيه مجموعة من أشهر أغانيه وقدوده الحلبية وموشحاته الأندلسية. هذا الأداء لم يكن مجرد استعراض للقدرات الصوتية، بل كان بمثابة رحلة موسيقية جمعت بين التراث والحداثة، واستطاع من خلالها فخري أن يأسر الجمهور، الذي بقي متفاعلاً معه طوال الساعات العشر.
ثلاث سنوات على رحيل صباح فخري، لكنّ حضوره في الطرب العربي عموماً والقدود الحلبية خصوصاً سيبقى راسخاً وجزءاً ثابتاً في علاقتنا مع ذاكرتنا الموسيقية المهمة.