يؤسّس معرض "ما بعد الانطباعية – رؤية أعمق"، المقام حالياً في اللوفر أبوظبي (16 أكتوبر 2024 - 9 فبراير 2025)، آلية عرض للأعمال الاستثنائية التي يقدمها، وفقاً لنسق زمني يجد منطلقه من "الانطباعيين الجدد".
بدايةً، تطالع الزائر لوحة فان ريسلبيرغ "الرجل الممسك بدفة القيادة" فيستوقفه التناغم العجيب بين المساحات الممتلئة وتلك الفارغة المفتوحة على الأفق وقد لاحت سفينة شراعية من بعيد؛ البحر المحيط بالبحّار أميل للأخضر، وفي البعيد يمسي البحر أزرق حيث تلك السفينة.
تليها لوحة بول سينياك "المهدّم" التي رسمها عام 1896 على شيء من "الزخرفية الجديدة"، والعامل الرافع فأسه عالياً يهم بالنزول به مواصلاً فعل الهدم، فسيناك في تلك الحقبة لا يريد الإحالة إلى التبشير بمجتمع جديد، بل إلى تهديم الصرح الاجتماعي القديم المتصدع.
وعلى العكس من "المهدّم" تطالعنا لوحة "امرأة تنشر الغسيل" لكاميل بيسارو، وهي انطباعية بامتياز، لا بل إن بيساور يعتبر أساسياً في جماعة الفنانين الانطباعيين الأوائل، وصولاً إلى بول سيزان، صاحب الأثر الكبير في تاريخ الفن الحديث، ونحن نرى له خمس لوحات مدهشة، منها "السبّاحون" و"طبيعة صامتة من البصل" و"صورة شخصية للسيدة سيزان".
فان غوخ وغوغان
قد يجد الزائر نفسه فجأةً أمام أقسام متجاورة متحلقة حول دائرة، كما لو أنه يستجيب لشعور جميل وغامض غير معني بتسلسل أو تتابع زمني، وربما على شيء من نداء خفي سرعان ما يكتشف مصدره، حين تقع عيناه على لوحة فان غوخ "القيلولة" ساطعةً كالشمس، كما لو أنها ترسل دعوة ضوئية لا محيد عن تلبيتها، وهي تزاوج بين ظل دافئ وشمس غامرة، ولون التبن الذي يأخذ الفلاح وزوجته قيلولتيهما عليه، أقرب إلى البني وهما في الظل، بينما يسطع التبن ذهبياً يأخذ العيون في الجانب المشمس من اللوحة.
إلى جانبي "القيلولة"، هناك لوحته الشهيرة "غرفة فان غوخ في آرل"، و"مطعم حوريّة البحر في أنيير"، وعلى الجدار المقابل ثلاث لوحات لبول غوغان، صاحب الأثر الكبير في غالبية معاصريه من فناني المعرض أفراداً وجماعات، بينما تحمل لوحة "مقبرة الأليسكامب" التي رسمها غوغان عام 1888 على الجدار المقابل للوحات فان غوخ، حقيقة مفادها أن غوغان رسمها في أثناء الشهرين اللذين أمضاهما مع فان غوخ في آرل.
كان هذا اللقاء الثاني والأخير بينهما، بعد لقائهما في باريس، ليتوصل غوغان إلى أنه قلما كانا متفقين، ولا سيما فيما يتعلق بشؤون الرسم، فيقول: "هو رومانسي، في حين أنني أكثر ميلاً إلى الحالة البدائية" كما يورد في رسالة إلى إميل برنار.
إضافة إلى تلك اللوحة لغوغان تحضر واحدة من تجاربه في الصورة المطبوعة من خلال عمله المعنون "خلق الكون" وصولاً إلى مرحلة تاهيتي المتجسدة بالمعرض بلوحة "أريريا" وهي واحد من أربع لوحات أنجزها اعتباراً من عام 1892، مجسداً فيها طقوساً خيالية على اتصال بإلهة القمر في مجمع الآلهة البولونيزية.
مباهج لوتريك وجماعة النابي
تتوالى الأعمال الخالدة في المعرض، وتحضر أعمال فنانين عظام آخرين، كما هو الحال مع إميل برنار ولوحاته "البريتونيات يحصدن" و"البريتونيات ذوات المظلات" و"مادلين في غابة الحب".
وثمة قسم خاص بـالمدهش تولوز لوتريك، وأعماله التي تضج بالحياة والمباهج منجزاً في مسيرته الفنية الوجيزة ما يزيد عن 700 لوحة وما يقرب من 400 مطبوعة حجرية وملصق هو الذي توفي ولم يتجاوز الخامسة والثلاثين من العمر، ومعه سينفتح المعرض على عوالم الراقصات والمهرجات في لوحاته "امرأة ذات وشاح أسود من الريش" و"المهرجة تشا ايو كاو" وأعماله في الطباعة الحجرية مثل "حجرة تبديل الملابس الصغيرة".
يقدم المعرض أيضاً أعمال أوديلون ريدون، هو الذي يعتبر أحد أعظم فناني الصور المطبوعة، حيث كان يوظف بمهارة مؤثرات العتمة التي يحدثها قلم الفحم والطباعة الحجرية، كما في لوحة "العنكبوت" (1887) و"بياترس" (1897)، بالتوازي مع لوحات زيتية له مثل "زهور الأقحوان" الشهيرة و"نموذج مصغر لسجّادة صلاة".
أما الانتقال من ريدون إلى جماعة "النابي" التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر فيبدو أمراً منطقياً جداً، وقد التقيا على رؤية للفن تهيمن عليها أجواء الحلم والبعد الروحاني، المتصل أيضاً بدعوة الجماعة إلى تحرير الفن من القيود الأكاديمية والواقعية الصارمة، حيث قدم فنانوها رؤى جديدة ومفاهيم تجريبية، وهكذا فإننا سنشاهد في المعرض على سبيل المثال لوحة بول سيروزييه "التعويذة. منظر طبيعي في غابة الحب"، و"الصعود إلى الجلجلة" لموريس دينيس، ولوحة بيير بونار "المتعة"، وغيرها من أعمال لأقطاب هذا التيار.
الطيف الواسع لما بعد الانطباعية
تضمن معرض "ما بعد الانطباعية – رؤية أعمق" 100 عمل فني، وهو يأتي استكمالاً لمعرض سابق بعنوان "الانطباعية على درب الحداثة" قدمه لوفر أبوظبي خلال الفترة من 12 أكتوبر 2022 حتى 5 فبراير 2023، متضمنا أعمالاً لمونيه ومانية ورينوار وسيزان وموريزو وبيسارو وسيسلي.
مع "ما بعد الانطباعية" يبدو النطاق أوسع، والتنويعات الأسلوبية أشد تشعباً على صعيد التجديد والاكتشافات والانعطافات، فهذا المسمّى بحد ذاته ملتبس، ومن الصعب وضعه في سياق أسلوبي أو نقدي واحد، فهو عائد للرسام والناقد الفني البريطاني روجر فراي، وتنظيمه عام 1910معرضين تأسيسيين في غاليري "غرافتون" بلندن، الأول جاء بعنوان "مانيه والما بعد الانطباعيين" والثاني "معرض ما بعد الانطباعيين الثاني"، وقد اعترف فراي نفسه أن هذه التسمية قاصرة وفقاً للطيف الواسع من الأساليب التي قدمها في معرضيه، وهذا تماماً ما سيكون عليه معرض لوفر أبوظبي "ما بعد الانطباعية – رؤية أعمق" الذي يصل هنري ماتيس، حيث تعرض في آخر أقسامه بورتريه صغيرة رسمها أثناء زيارته المغرب وهي بعنوان "بورتريه فاطمة".
وبكلمات أخرى فإن معرض لوفر أبوظبي يقدم أعمالاً أصلية بالتعاون مع متحفي أورسيه وأورانجيري لجيل من الفنانين شكّلت أعمالهم بين عامي 1880 و1910 مقاربات جديدة للفن، حطموا فيها مفاهيم كثيرة، وضربوا عرض الحائط بالتقاليد الأكاديمية والمدرسية، وخاضوا غمار أبحاث لونية، وأسسوا أبجديات للتجريد والتناغم، ما أدى إلى ظهور تصورات جديدة للوحة تركت أثرها في جميع مجالات الفن في القرن العشرين.