النهار

زيارة إِلى بيته في غيابه  (2 من 2)
غرفة القراءة في بيت مونيه
A+   A-

في عادة المبدعين أَن تكون لهم أَماكن محبَّبة يُنتجون فيها، يَخْلُدون إِليها جاهزةً، أَو هُم يجهِّزونها على مزاجهم وهواهم وطبيعة نتاجهم، فتغدو بعد غيابهم حضورًا دائمًا يجعلها متحفًا أَو مَزارًا أَو وُجهةً ثقافية أَو سياحية.
من هذه الأَماكن الخالدة: بيت الرسام الفْرنسي كلود مونيه Monet (1840-1926) في مدينة جيفرني Giverny (79 كلم غربي باريس، في منطقة النورماندي، جهةَ الضفة اليُمْنى من نهر السين)، وحول البيت حديقة كانت فضاءَ الرسام في امتشاقِهِ ريشتَه وملْوَنَهُ وأَنابيبَ أَلوانه وقماشتَه البيضاء وأَفكارَه، تَرجَمَها لوحاتٍ خالدةً وُلد معظمُها في تلك الحديقة فباتت مع البيت وُجهةً ثقافيةً يقصدها الآلاف سنويًّا من فرنسا وخارجها.
في الحلقة الأُولى من هذا المقال عرضتُ زيارةً إِلى عالَم مونيه، بيتًا وحديقةً، لاستشفاف أَجوائه.
في هذا الحلقة الأُخرى والأَخيرة أُفصِّل بعضَ ما فيهما.

الشغف بالمكان
فور انتقال مونيه إِلى المنزل الذي استأْجره في جيفرني (1883) أَخذ "يهندسه" وفق ذوقه الفني، حتى بات كما يرغب فانعكس ذلك بريشته في معظم روائعه الخالدة. وعُرف عنه أَنه كان يحب الرسم في الخارج، بدليل أَسفاره المتعددة إِلى أَماكن كثيرة (إِنما غير بعيدة) رسَمَ فيها لوحاتٍ ومناظرَ ومشاهدَ في الطبيعة. وكان متعلِّقًا جدًّا بمنزله وحديقته، حتى أَن أَصدقاءَه كانوا يزورونه ويهنأُون معه في حديقته، أَو يرسمون فيها مثله، ويقدِّرون لديه هذا الشغَف بالمكان.  

صورة قديمة لـمونيه في حديقته

 

زنابقُ الماء
كان مونيه معجَبًا بانعكاس الغيوم ونور الشمس على صفحة المياه. من هنا رسْمُهُ لوحاتٍ كثيرةً من محترفه العائم في أَرجانتُوْيْ أَو في مجاري الأَنهار، فبرَعَ في نقل المشهد معكوسًا في الماء كما في مرآة موشورية.
سنة 1893 استأْجر قطعة أَرض خلف سكَّة القطار، فيها بحيرة راح ينقل معكوسةً فيها المشاهدَ والمناظر. إِلى ذلك، كان في المكان جسْر ياباني كأَنه مبنيٌّ منقولًا عن لوحة يابانية، لكنه في لوحته جعلَه أَخضر تمايزًا له عن الأَحمر المأْلوف في الرسوم واللوحات اليابانية.      
وكان في الحديقة مناخ شرقي يتجلَّى في بعض النباتات والشجيرات مثل البامبو والصفصاف الباكي وبعض الأَشجار اليابانية، وجميعها تحيط بالبحيرة فتزيدها جمالًا. وزرع في عمق البحيرة مجموعة من زنابق الماء. من هنا ذِكْرُهُ في إِحدى رسائله: "أُحب الماء لكنني أَيضًا أُحب زنابق الماء. لذا حين عامت البحيرة أَحببتُ تزيينها بالأَزهار".
وكان معتزًّا بحديقته وما فيها من صفحات مياه، حتى أَنه كان يحب أَن يستقبل فيها أَصدقاءَه، ويوعز دومًا إِلى البستانيّ الذي وظَّفه أَن يشذِّب يوميًا الأَوراق اليابسة والأَزهار الذابلة كي تظل الحديقة مشعّةً بالأَلوان الزاهية والأَزهار المتفتحة.
سنة 1897 بدأَ مونيه يرسم زنابق الماء نقلًا عن زوغتها في حديقته. وراح تدريجيًّا يحاول أَن ينقل السماء المنعكسة على صفحة البحيرة فيبدو كأَنه يرسم السماء فوق لا المياه تحت، وظل يكرر رسم هذا المشهد حتى انتقل به من عمق الانطباعية إِلى مشارف التجريد، فأَسس نهجًا جديدًا سار عليه بعده كثيرون انطلاقًا من ريشته وبراعته التشكيلية. من هنا ذاعت لوحاته عن زنابق الماء في معظم متاحف العالم.

  هيكلية البيت
 عاش مونيه في بيته ومعه ثمانية أَولاد، فكان يتنقَّل بين البيت والحديقة، ويغتبط في المطبخ بوصول الخُضَر والفواكه من حديقته، يقدِّمها طازجة لزواره.
البيت من طبقات ثلاث:
1. الطبقة الأَرضية: وفيها بهو أَزرق جميل، وغرفة قراءة واستراحة. وفيها محترفه الذي عمل فيه حتى 1899. تـمَّ ترميمه سنة 2011 بدعم من "مؤَسسة متحف فرساي". واهتمت بتصميم الترميم الباحثة الأَكاديمية والمؤَلفة عن الفن الانطباعي سيلفي باتين فأَعادته كما تخيَّلَت أَنه كان في أَيام مونيه. في هذه الطبقة نحو 60 نسخة مصورة من اللوحات. 

2. الطبقة العُليا: يقود درجٌ ضيِّق إِلى الطبقة العليا حيث غُرف النوم. غرفتُه الخاصة أُعيد ترميمها سنة 2013، وفق ما كانت المعلومات عن ترتيبها أَيام مونيه، حدَّها غرفة الاستحمام. وتمتد في غرفة النوم لوحات أَصدقائه سيزان ورنوار وكايبوت. إِلى جانبها غرفة زوجته أَليس، وغرفة بلانش مونيه التي انفتحت للزوار بعد إِعادة ترميمها سنة 2014، وبلانش هي مساعدة مونيه وزوجة ابنه جان، وبقيت في هذا البيت حتى وفاتها سنة 1947.

3. غرفة الطعام والمطبخ: أُعيد ترميمُهما بالكامل، على جدران الأُولى الصفراء معلقة نسخ من لوحات يابانية. وكان الأَصفر مأْلوفًا في تلك الأيام. وفي جدران المطبخ مقاطع جدرانية من الفسيفساء الزرقاء كان يحبها مونيه. 

 

اقرأ في النهار Premium