أوراس زيباوي
تحتفل باريس بمرور ستين عاماً على العلاقات الديبلوماسية بين فرنسا وجمهورية الصين، ولا تنحصر الاحتفالية بالزيارات الرسمية والاتفاقات التجارية، بخاصة أنّ فرنسا هي ثالث أكبر شريك تجاري للصين في الاتحاد الأوروبي، بل تشمل كذلك النشاطات الثقافية ومنها معارض مخصصة لفن التصميم والموضة والفنون التشكيلية.
تكشف المعارض المقامة حاليا لعدد من الفنانين الصينيين في المتاحف والمراكز الثقافية عن مواهب كبيرة عرفت كيف تصهر في بوتقة واحدة المؤثرات والتقنيات الشرقية لحضارة آسيوية عريقة موغلة في القدم، مع الانفتاح على تجارب الحداثة الغربية.
في هذا الإطار يبرز دور "مركز آيسكل الثقافي" في جادة جورج الخامس المحاذية لجادة الشانزيليزيه، ومن أهدافه التعريف بأبرز الفنانين الصينيين المعاصرين اليوم المقيمين في الصين. ويقام حاليا معرض تحت عنوان "عندما تصبح الطبيعة بيضاء" للفنان الصيني هيكسي (من مواليد بيكين عام 1960)، يعيش في مدينة شانغهاي منذ سنوات الطفولة حيث درس في معهد الفنون الجميلة وتلقى تعليما كلاسيكيا مكّنه من التعرف بعمق الى التراث الصيني في الرسم والتلوين والى جماليته الطالعة من رؤية شعرية عميقة للكون.
لكنّ الفنان أدرك- وقبل التخرج من معهد الفنون- أنّ عليه التحرّر من تقليد هذا التراث وأسلوبه في رسم الطيور والأزهار وغيرها من عناصر الطبيعة، ويجد أسلوبه الخاص المنفتح على العالم من دون أن يكون على قطيعة مع تراثه.
نشاهد في المعرض مجموعة من رسومه بالأبيض والأسود منفذة بالحبر الصيني على ورق الحرير. تطغى مشاهد الطبيعة البعيدة عن تجمعات البشر ولا نرى إلا بعض الحيوانات التي تبدو وحيدة في قلب المشهد الطبيعي، متأملة في سكونها.
تأثير ياباني
عام 2019، سافر الفنان الى اليابان وعندما شاهد مدينة كاموغاوا المطلّة على المحيط الهادئ، تملكه شعور فريد لم يعرفه من قبل، على الرغم من نشأته في مدينة شانغهاي التي تشتهر بمينائها التجاري العالمي وانفتاحها على القارات.
ومن تأمله في المحيط، ولدت لوحته الكبيرة الحجم التي نشاهدها في المعرض في باريس تحت عنوان "جبل من المياه"، لأنه وبحسب تعبيره أراد أن يرسم البحر كجبل.
تستعيد هذه اللوحة أجواء سبق أن عرفناها لدى فنانين يابانيين كبار من القرن التاسع عشر وأولهم الفنان هوكوساي الذي رسم لوحة بعنوان "الموجة الكبيرة في كاناغاوا" عام 1832 وحققت نجاحا كبيرا في العالم بسبب أسلوبها الفريد في رسم حركة موج البحر، وكان لها تأثير كبير على فناني الحداثة الأوروبية ومنهم الهولندي فان غوغ والفرنسي كلود مونيه.
عايش الفنان هيكسي مرحلة وباء الكورونا والعزلة التي فُرضت على الصينيين لمنع انتشار المرض. بقي شهرين دون أن يمسك ريشته، ومن معاناة هذه المرحلة ولدت أعماله الجديدة التي تطالعنا اليوم في المعرض الباريسي. لوحات متفاوتة الأحجام وقائمة على لغة بصرية متينة وصارمة مما يمنحها جاذبية خاصة. السكون الذي يهيمن على الأمكنة هنا، ما هو إلا انعكاس للقلق الذي يعيشه الفنان ويعبر عنه بالخطوط السوداء.
المشهد المعاصر
معرض الفنان هيكسي والمعارض الأخرى المقامة لفنانين من الصين في باريس، تؤكد ثراء المشهد الفني المعاصر وتنوعه، على الرغم من الرقابة وانعدام الحرية السياسية.
فالفنانون يتعاملون مع الواقع ويعون التحديات التي تواجههم. كل فنان له أسلوبه الخاص في بحثه عن الحرية والافلات من القيود المفروضة عليه. وتشير الإحصاءات أن هناك عشرة آلاف طالب يدرسون في المعاهد الفنية في مدينتي شانغهاي وهانغتشو مما يعكس أهمية الفنون في نسيج الحياة اليومية رغم التحولات الهائلة التي أحدثها النظام الشيوعي في المجتمع وسياسة كم الأفواه.