في السائد أَنَّ الفأْس تهشِّم أَغصانَ الشجرة أَو جذْعَها، وأَنَّ المنشار (اليدويّ البسيط) يُقَطِّعها أَغصانًا وجذعًا لأَخشاب الوقود. لكن الفنان الأُسترالي الشاب داريل ردكليف من أَلباني (غربي أُستراليا) جعل المنشار ربيب الإِزميل ليحوِّل جذوع الأَشجار تماثيلَ خشبيةً مذهلةَ التعابير يروي كلٌّ منها حكاية مختلفة، هو الذي حوَّل بستانه المشجَّر إِلى متحف خشبي في الهواء الطلْق.
مَن هو هذا المبدع؟ وما قصة منشاره؟
المنشار بدل الإِزميل
في تعريف المنشار الآلي (أَو الجنزيري) أَنه آليٌّ يعمل غالبًا على الكهرباء أَو البطارية، غالبًا ما يُستخدَم لقطع الأَشجار الضخمة والباسقة.
داريل رادكليف تعهَّد تحويل جذوع الأَشجار العتيقة روائعَ نحتيةً جديدة، لا بالإِزميل كسائر النحاتين بل بالمنشار الكهربائي الموصول على مسطَّح مستطيل حتى إِذا دارَ يدور على الجسم الخشَبي فينْحتُه بكل تُؤَدة، كأَنه يتنقَّل بإِزميل عادي في كفِّ يده، كأَنه يمسك بريشة على قماشة بيضاء، كأَنه يمسك بالقلم الرصاص على ورقة رسم.
من هذه البراعة النادرة ينحت بمنشاره جميع أَنواع الحيوانات وجميع أَشكال البشر، بأَحجام مختلفة من ثلاثة أَمتار طُولًا وعُلُوًّا إِلى البومة الصغيرة الحجم، وما بينهما. وقد يستغرق نهارًا كاملًا ينحت عصفورًا خشبيًّا ضئيل الحجم، أَو ثلاثة أَسابيع لينحت تمثالًا ضخمًا مركَّبًا ذا مواضيع متعدِّدة فيه. ومع السنوات بات لديه نحو 100 تمثال خشبي تملأُ بستانه الواسع وتحوِّلُه متحفًا إِبداعيًّا في الهواء الطلْق، يقصده زوَّار وسيَّاح من جميع أَنحاء أُستراليا. ومع تَوَسُّع وسائل التواصُل الإِكتروني، تنتشر صُوَرٌ كثيرة من روائعه النحتية.
أَشكال غير متوقَّعة
يبدأُ من وقوفه أَمام جذْع الشجرة، غير مدركٍ سلَفًا ولا مصمِّمٍ سلَفًا ما يريد أَن ينحت، حتى إِذا بدأَ منشاره ينخر الخشب تبدأُ ثنايا الخشب تقود خياله إِلى الشكل المؤَاتي فيُطلعُ شخصًا أَو حيوانًا أَو قَصرًا أو آلة موسيقية وسواها الكثير مما جعل واحته وُجهةً سياحية فريدة (مجانية) في غربيّ القارة الأُسترالية.
تعود علاقة رادكليف بالمنشار إِلى نحو 10 سنوات حين كان ذات فترة في الولايات المتحدة وشاهد منحوتات خشبية قديمة ترقى إِلى خمسينات القرن الماضي. وحين عاد إِلى مدينته الأُسترالية راح يفكِّر في اتِّباع الطريقة ذاتها إِنما لا بالإِزميل بل بالمنشار.
وَوَفِّقَ إِلى نوع أَشجار خاص أَحبَّه: "الجَرَّة" (نوع من "الأُوكاليبتوس مارجيناتا" - الكافور أَو الكينا) وهو شجر أَحمر الخشَب يكثُر في جنوبي أُستراليا (قد يعلو حتى 50 مترًا بجذع يبلغ قطره مترين). وجَدَ هذا النوع طريًّا تحت أَسنان المنشار ومطواعًا ليحفر فيه المنشار أَصغر تفاصيل الشكل المنْويّ نحته.
التشيلو والساعة
من أَبرز ما يعتزُّ ردكليفت بنحته: آلة تشيلو ضخمة (نحو مترين ونصف المتر) فوق جذع شجرة محروق، وجزء من ساعة كبيرة قديمة كذلك فوق جذع محروق. وبين منحوتاته أَيضًا: أَخطبوط وقَصر حلزوني لولبيّ، وثلاثة خنازير ودُب بنّيّ، وسواها الكثير.
وهو يرى أَن التماثيل، منحوتةً بالمنشار، قد تتغيَّر بين نشرة وأُخرى بغلطة نشْر، لكن ردكليف يحوِّل الغلطة إِلى شكل آخر غير الذي يكون صمَّم نشْره، كأَنْ يكون ينشر جذعًا ليُطْلع منه نسرًا، قد ينزلق به المنشار خطأً، فلا يرمي الجذع بل يُكمل نشره ليُطلع بومة، وإِن لم يصدر الشكل كما يريده، يُكمل كي يُطلع منه حمامةً أَو عصفورًا صغيرًا. المهم أَلَّا يرمي الخشبة التي يحفرها فلا بدَّ أن يُطْلِعَ منها شكلًا غير متوقَّع. وهو لا ينحت القطعة مرة ثانية فلا نسخة أُخرى عن أَيِّ منحوتة لديه، ومن هنا قيمتُها الفريدة.
في الحدائق العامة والمجمَّعات البحرية
بعد رواج تماثيله وصداها، أَخذَت مؤَسسات رسمية وخاصة تكلِّفه نحْت تماثيل توضع في الهواء الطلق في الحدائق العامة والمجمَّعات البحرية على الشواطئ. وزاد من انتشار أَعماله صدورُ صوَرها على شاشات التواصل الإِلكتروني التي باتت تسجل آلاف الآلاف من المتابعين على تلك الشاشات.
وهو نال جوائز عدة على أَعماله لكنه قلَّما يغادر بستانه المتحف، لأَنه يعمل فيه ساعات طويلة لا يشعر بمرورها لأَنه دومًا في حوار دائم بين الجذْع والمنشار.