عادت ليون إلى الواجهة الدولية، منذ تأسيس مهرجان لوميير السينمائي قبل خمسة عشرة عاماً. استطاع المؤسسان، الراحل برتران تافرنييه وتييري فريمو، موضعة هذه المدينة على الخريطة السينمائية، أو ربما اعادتها إلى مكانتها، بعدما كانت هي المدينة التي وُلدت فيها السينما قبل 129 عاماً على يد الأخوين لوميير الرائدين. كلّ شيء "يتنفّس" سينما في فرنسا عموماً، وليون تحديداً، عاصمة السينماتوغراف.
لا شيء مفتعلاً في حبّ الناس للفنّ والثقافة، بل هو حبّ أصيل متجذّر في تقاليد وعراقة. الآلاف يزحفون إلى الصالات طوال تسعة أيام. حتى أكثر العروض التي لا نتوقّع فيها حضوراً، نجدها مكتظة بمتفرجين من الأعمار والخلفيات الاجتماعية كافة. فعل المشاهدة في ليون تراث ونمط حياة وتواصل مع آخر المستجدات التي تأتي من أنحاء العالم، وقد تكون مستجدات فكرية وجمالية غير محصورة في اطار المعلومات.
المهرجان الذي يرفع شعار "السينما للجميع"، أقام هذا العام دورته الخامسة عشرة من 12 إلى 20 تشرين الأول. عروض لأفلام كلاسيكية مرمّمة، تذكير بأعمال سقطت في النسيان أو هُمِّشت، ماستركلاسات لأسماء بارزة في عالم الإخراج والتمثيل (جوسيبي تورناتوري، كوستا غافراس، كزافييه دولان، إيسيار بولاين، بينيسيو دل تورو، أليخاندرو خودوروفسكي الذي عُرضت له ثلاثة أفلام في سهرة طويلة)، تحيات، حفلات عزف أوركسترالي ترد الاعتبار إلى السينما الصامتة، معارض، وغيرها الكثير من النشاطات التي تنشر الثقافة السينمائية ماضياً وحاضراً، مع نبذ أي شكل من أشكال الهرمية والأفضلية بين سينما شعبية وسينما نخبوية. أما ذروة المهرجان فتتجسّد كما كلّ عام، في منح جائزة رفيعة: جائزة لوميير. نالتها إلى الآن قامات كبيرة في الإخراج والتمثيل، من مثل مارتن سكورسيزي وميلوش فورمان وكن لوتش وكاترين دونوف وجيرار دوبارديو. عملاق السينما الأميركية كلينت إيستوود (94 عاماً) أول من نالها في أول دورة عُقدت عام 2009. هذا العام، أُسنِدت الجائزة الى الممثّلة الفرنسية إيزابيل أوبير (71 عاماً)، خلفاً للمخرج الألماني فيم فندرز، وفي هذه المناسبة جرى عرض استعادي لمجموعة من 13 فيلماً لها.
عشية حفل الختام، أُقيم تكريم مهيب على شرفها في مركز المؤتمرات، استمر لأكثر من ساعتين قُدِّمت خلالهما الأغاني والخطب التكريمية ومقاطع فيديو عن أهم أدوارها في عدد من أشهر أفلامها. ضيوف وشخصيات رفيعة من الوسط السينمائي والفني والثقافي شاركوا في السهرة لتكريم الممثّلة التي أطلت في سبعة أفلام تحت إدارة كلود شابرول. أما الجائزة فتسلّمتها من يد المخرج المكسيكي ألفونسو كوارون الذي جاء ليقدّم مسلسله الأخير، "ديسكلايمر".
هناك مكافأة ما لكلّ مشاهد في مهرجان لوميير. مَن أراد أفلام رعب ضمن سهرة تستمر حتى بزوغ الفجر في قاعة توني غارنييه التي تسع لخمسة آلاف مشاهد وأكثر (يُقام فيها الافتتاح)، فليس عليه الا ان يبتاع تذكرة ليشاهد ثلاثة أفلام رعب دفعة واحدة من اختيار المخرج ألكساندر أجا. أما الذي يفضّل مغامرة اكتشاف أفلام تحتاج إلى فضول لاكتشافها، فهناك قسم "كنوز ولُقيات" (ترجمة حرة لـTrésors et curiosités) يجمع أفلاماً لم يُسلَّط عليها الضوء كثيراً. بين هذا وذاك، يقترح المهرجان عدداً من الاستعادات التي تتصدّرها واحدة مخصصة لأفلام المخرج الأميركي فرد زينيمان (1907 - 1997)، الفائز بست جوائز "أوسكار"، الذي أعطى كلّاً من مارلون براندو ومونتغوميري كليفت وميريل ستريب أول أدوارهم على الشاشة. هذا الذي يتحدّر من البورجوازية النمسوية، دخل المهنة ككاميرامان في ألمانيا الثلاثينات قبل ان ينتقل إلى أميركا. في مطلع الخمسينات، قدّم فيلمين حقّقاً نجاحاً جماهيرياً ونقدياً كبيراً: "هاي نون" مع غاري كوبر وغريس كيلي، و"من الآن إلى الأبد" الذي أشهر مشاهده هو قبلة بين برت لانكستر وديبورا كير على الشاطئ.
إيزابيل أوبير خلال تكريمها. (بيار فيراندي)
استعادة سينمائية
استعادة ضخمة أخرى حظي بها الممثّل الياباني توشيرو ميفون الذي توفي في عام وفاة زينيمان، لكنه كان يصغره بـ13 عاماً. 11 هي عدد الأفلام التي عُرضت له، بالاضافة إلى فيلم من إخراجه. ستّة من هذه الأفلام هي لأكيرا كوروساوا الذي كان يعتبر موفين ممثّله المفضّل، وقد تعاونا معاً في المحصلة على 16 فيلماً. معاً، أنجزا تحفاً من بينها "راشومون" (الفيلم-المدرسة في كيفية طرح تشابك وجهات النظر حول حادثة واحدة)، و"الساموراي السبعة".
كان كوروساوا معجباً بالحضور الجسدي لميفون، وقد وظّف أيضاً بعض لمساته الكوميدية. تعاونهما يُعتبر اسطورياً، مثال على كيفية انصهار مَن يقف خلف الكاميرا مع مَن يقف قبالتها لخدمة العمل الفني. من بين ما عُرض لميفون: "جحيم في المحيط الهادئ" لجون بورمان، أحد أجمل أفلامه. تجري أحداثه خلال حرب المحيط الهادئ، حيث رجلان أحدهما ياباني (ميفون) والثاني أميركي (لي مارفن) يتصارعان داخل جزيرة ستتحول في هذه المناسبة إلى سجن في الهواء الطلق.
وفي اطار الاعتناء بالمخرجات وتاريخهن، قدّم المهرجان هذا العام استعادة لأفلام السينمائية المكسيكية ماتيلد لانديتا (1913 - 1999). يذكر الملف الخاص بها، أنها في بداياتها انتحلت صفة رجل كي يتم قبولها للعمل كمساعدة مخرج، متحديةً القوانين الخاصة بعمل النساء في تلك الحقبة. هذا يعطي فكرة عن الظلم الذي وقع على فنّانات ذلك الزمن، وهو ظلم يحاول المهرجان رفع شيء منه عبر التعريف بأعمالهن. عانت ماتيلد في مسيرتها، وتعرضت لخيانات عديدة وطعنات في الظهر، كما حال المصرفي الذي كلّف مخرجا آخر مهمة أفلمة سيناريو كتبته بنفسها وكانت تتوقّع نقله إلى الشاشة. ثلاثة أفلام عُرضت لها في لوميير، خرجت الى الصالات خلال ثلاث سنوات متتالية: 1949، 1950، 1951. بطلاتها ضحايا العنف الذكوري، والنظرة التي تلقيها عليهن تتأتى من وعي نسوي عميق.
المهرجان رغب أيضاً الاضاءة على كوستا غافراس، فبعد الأموات… الأحياء! المخرج الفرنسي من أصل يوناني لا يزال حياً، بل نشيطاً، رغم سنواته الإحدى والتسعين، اذ صدر له فيلم جديد، "النفس الأخير"، قبل أسابيع. وفي مناسبة بلوغ المهرجان دورته الـ15، حلّ غافراس ضيف شرف الافتتاح. هذا الذي عُرف بأفلامه السياسية وترأس السينماتيك الفرنسية، عُرض له إثنان من أبرز أعماله، كان لهما تأثير عميق في الوعي السياسي في أواخر الستينات ومطلع السبعينات، هما: زد" و"الاعتراف". كلاهما من بطولة إيف مونتان. شاهدتُ الفيلم الثاني مع مجموعة طلاب، مما يؤكّد قدرة الفيلم السينمائي على مخاطبة أجيال عدة من المشاهدين.
مهرجان لوميير بأماكن حدوثه وصالاته الكثيرة، وبمعهده الأشبه بخلية نحل خلال أيام انعقاده، هو معبد للسينيفيلية الفرنسية والأوروبية. تدخل إلى صالة يسمونها "الهنغار"، تجلس في مقاعدها، وهي مقاعد، كلّ واحد منها يحمل اسم مخرج أو مخرجة. الجمهور ليس فقط حاضراً بقوة ومواكباً، رغم ان المعهد لا يقصّر معه على مدار العام من العروض والاستعادات والاحتفالات، بل هو جمهور يتفاعل مع ما يُقدَّم اليه بإيجابية شديدة. في هذه الأجواء من السينيفيلية، قدّمت المخرجة الفرنسية جوستين ترييه التي نالت العام الماضي "السعفة الذهب" عن فيلمها "تشريح سقوط"، حصّة عن أفلامها المفضّلة، فتحدّثت خلالها عن تلك التي تركت فيها أثراً بالغاً. هذه فقرة جديدة استحدثها المهرجان وقد تستمر. نفهم رغبة الإدارة في اطلاق المبادرة بمخرجة ذاع صيتها أخيراً، لكن هناك مَن يتجاوزها باعاً وخبرةً واطلاعاً على السينما.
عموماً، هذا تفصيل صغير من بين كمّ هائل من الأفلام التي تُعرض بالتوازي في أرجاء المتروبول الذي يعيش لتسعة أيام متتالية على إيقاع الفنّ السابع، لكن فقط عند المهووس بقصص الآخرين على الشاشة. ولا متعة أكبر من الانتقال من هذه البقعة إلى تلك من المدينة، للعودة بالزمن إلى السبعينات والخمسينات أو إلى فجر السينما، حيناً في صالة تسع بضعة عشرات من المشاهدين، وحيناً في قاعات شاسعة أدهشت أكثر من سينمائي عندما زارها. في يد، جدول العروض، وفي ثانية الهاتف المحمول الذي يتيح لي الاستدلال على الطريق. هكذا هي يوميات اللحاق بالأفلام في مدينة مفعمة بالحياة يحدث فيها ألف شيء وشيء بالتوازي، وليست السينما سوى نقطة في بحر. في اليوم ما قبل الأخير، يجتمع الكلّ لإعادة تمثيل أول فيلم في تاريخ السينما، "الخروج من مصنع لوميير في ليون" (1985) في المكان الذي صُوِّر فيه، بقيادة الحائز أو الحائزة جائزة لوميير، وكأنه يُراد من تلك اللحظة السينمائية التي لا تتجاوز الـ45 ثانية، تكرارها كي تبقى حيّة إلى الأبد.