آل باتشينو
في شوارع نيويورك القاسية، امرأة تسير وحيدة، مُمسكة بيد طفل في الثالثة من عمره. خرجت المدينة الباردة لتوّها من الحرب العالميّة الثانية، ولا تزال ترفع ندوباً. في غرفة مظلمة تُسمّى "السينما"، تتدفّق الأشكال المضيئة من الشاشة الفضية. يهرب الطفل المُلقّب بـ"سوني بوي" – نسبة إلى أغنية آل جولسون – ووالدته إلى عالم موازٍ، تُضاعف قسوة حياتهما روعته.
لم يعرف آل باتشينو طفولة هانئة. والده غادر المنزل ذات يوم ولم يترك الباب موارباً. هناك، في نيويورك التي ضمّت أجداده الصقلّيين، شكّل عصابة صغيرة من أطفال بمثل سنّه، يهربون من المدرسة للّعب أو لصيد أشياء لامعة من المجاري لبيعها مقابل بضعة سنتات. ولولا اهتمام والدته روز، لكان قد سلك الطريق الذي سلكته العصابة فمات "أعضاؤها" قبل بلوغ الثلاثين بسبب إدمان المخدرات. دعم أمّه وتفانيها، وإعجابه بخطابات راي ميلاند في فيلم "نهاية الأسبوع المفقودة" دفعاه للحصول على مقعد في مدرسة نيويورك للفنون المسرحية.
"ستصبح نجماً كبيراً"
كان في الثامنة والعشرين من عمره عندما أخذه مدير المسرح جانباً، بينما كان يتدرّب على مسرحية، وهمس في أذنه "ستصبح نجماً كبيراً يوماً ما"، ثم قام بطرده. كبر "سوني بوي" وكبرت معه الشاشة الفضّية حتى تمدّدت وضمّته إليها، وأطبقت عليه. لم تمضِ أربع سنواتٍ، حتى حذّره فرنسيس فورد كوبولا من أنّ أداءه في "العرّاب" ليس على المستوى المطلوب. كان على كوبولا أن يقاتل بشدّة للإبقاء على آل باتشينو في دور مايكل كورليوني بوجه شركة إنتاج رأت في حضوره تواضعاً تكاد شخصيّة مايكل تفلت منه، ولم يطابق مواصفات "الرجل طويل القامة والوسيم" الذي أرادته. كان الاستوديو يرغب في جاك نيكلسون، لكن عندما علم باتشينو أنّ جدّه لأمّه وُلد في بلدة إيطالية تدعى كورليوني، شعر أن الدور كان مُقيّضاً له.
تلك الفترة، كانت شعبية مارلون براندو، النجم الوحيد في الفيلم، قد بدأت تخبو، وفي الكفّة الأخرى، يقف مضطرباً آل باتشينو "الوسيم جدّاً، بطريقته الخاصة جدّاً"، كما كان كوبولا يقول عنه ضاحكاً. تساءل المخرج الطليعي في حركة "هوليوود الجديدة" مرّات ومرّات عن السبب الذي كان يجعل باتشينو جذّاباً في أعين الفتيات ومحبوباً من النساء جميعهنّ، من دون أن يقع على جواب.
كانت الخيبة قد أصابت كوبولا كما تُصيب طفلاً أدرك أنّ "سانتا كلوز" خياليّ، وأنّه لم يعد يملك أيّ ورقة رابحة في وجه الحياة التي لن تمنّ عليه بقشّة، إذ كانت الرواية التي اقتبست "باراماونت" الفيلم منها تجاريّة بامتياز، أراد ماريو بوزو من كتابتها كسب المال لأولاده، وتوجّس كوبولا فشلاً يُضاف إلى فشل "باراماونت" بفيلم "الإخوة" في شبّاك التذاكر قبل أربع سنوات.
نحو دائرة الضوء
على كوبولا الإذعان لمشورة "باراماونت" ورؤيتها، ليُنقذ شركة الإنتاج التي أسّسها مع جورج لوكاس من الإفلاس على أيدي المراقبين الضريبيّين، فيما كانت تخطو مستقلّةً خطواتٍ شبه ثابتة. والمخرج الذي يتأرجح بين تردّد وحماسة مؤمن بموهبة الشاب الذي يُمضي وقته في المكتبات العامّة، يُطالع روائع الأدب، من تشيخوف إلى همينغواي.
خلال التصوير، رتّب الاستوديو عرضاً تجريبياً لمشهد مفصلي، حيث يقوم مايكل بقتل خصميه. وعندما شاهد التنفيذيّون تحوّل باتشينو من بطل حرب بريء إلى رجل عصابات بارد الدم، أدركوا أخيراً ما رآه كوبولا فيه. كان هذا المشهد لحظة حاسمة ثبّتت مكانة باتشينو في الدور، وانطلق ليُقدّم واحداً من أعظم الأداءات في تاريخ السينما. لا يزال الخوف الذي بدا جليّاً في تعابير وجه مايكل وقسماته يُثير قشعريرة السنيفيليّين حتى اليوم.
دفع "العرّاب" بباتشينو إلى دائرة الضوء، معزّزاً بصوت عميق وطاقة مشحونة. غالباً ما كانت مشاهده صامتة، لكنّها حملت دلالات عميقة، وأظهر فيها موهبة فريدة بالغوص في شخصيات معقّدة. موهبة قلّما يضاهيها أحد، وسرعان ما ارتبط اسم باتشينو بأدوار تتناول الجوانب المظلمة للنفس البشرية، من فرانك سيربيكو المتألم، إلى توني مونتانا العنيف، وفينسنت هانا المنهك.
بعيداً عن بريق هوليوود
غير أنّ عبقرية باتشينو لا تتجسّد فقط في شدّة أدائه، بل تكمن كذلك في قدرته على التنوّع. أمام الكاميرا، أتقن فنّ الانتقال من الانفعال إلى الحزن بمهارة فائقة، كما في أفلام مثل "عصر يوم قائظ"، حيث أبدع بجسيد شخصية سوني وورتزيك، ذلك الرجل اليائس الذي يواجه مواقف تفوق طاقته، بسيرورة محكمة من الضعف والعنف. وحتى في أعماله اللاحقة، حافظ باتشينو على طاقة متجدّدة في كلّ دور، إذ يضفي على النصوص طابعه الخاص، حتّى في فيلم "دار غوتشي" المخيّب للآمال لريدلي سكوت.
ورغم الإشادة والجوائز، بما في ذلك "أوسكار" أفضل ممثّل عن فيلم "عطر امرأة"، ظلّ باتشينو متوارياً عن الأضواء، يطلّ بخفر بين الفنية والأخرى من كوّة حفرها بنفسه، بعيداً عن بريق هوليوود، مفضّلًا التركيز على فنه وعشقه للمسرح.
لعلّ هذا الالتزام هو ما جعل أداءه نابضاً بالواقعية وتفاصيل الحياة. كلّ شخصية يجسّدها، سواء كانت بطلاً محبوباً أو شخصية معقّدة، يعاملها باحترام عميق، مجيباً عن سؤال "لماذا يحتفظ آل باتشينو بلقب الرمز الخالد؟"، هو الذي لا يُنظر إليه كنجم تجاريّ، بل كممثل حقيقي ملتزم بفنّه الذي ضمن له المكانة التي يتربّع عليها اليوم.
لم يكن النجاح المهني ولا المال هما الأولوية بالنسبة إليه. خسر والدته بجرعة زائدة بالخطأ في عام 1962، وكان حينها في الثانية والعشرين. ندبة لم يمحُها الوقت، وظلّ المجد الذي بناه على راحتي أمّه ينكأ جرحه. إدمانه على الكحول كان، كما يصفه في مذكّراته الصادرة حديثاً تحت عنوان "سوني بوي"، ملاذاً يحميه من الألم الطويل لفقدان والدته. يقول إنّه لجأ إلى الخمر لئلا ينتهي به المطاف مثلها، جثّة في مستشفى " بيلفيو" النفسي النيويوركي، تضمّ قلباً نابضاً. قلب يخفق بما يُشبه الحياة، أو بما تبقّى منها، ولكنّها في نهاية المطاف... جثّة.