في مذكراته "مصر يا عبلة... سنوات التكوين" (دار الشروق)، يأخذنا الفنان التشكيلي المصري محمد عبلة إلى فترة زمنية قادته إلى اليقين بأن الفن "يجب أن يكون في خدمة الناس"، وأن على الفنان "التفاعل مع قضايا مجتمعه الاجتماعية والسياسية والثقافية".
من هنا، فإنّه يفخر بأنّه شارَك في كتابة الدستور المصري في العام 2013، "في لحظة مصيرية من تاريخ الوطن"، كما يعْتز بتأسيسه "مركز الفيوم للفنون- متحف الكاريكاتور"، الذي أتاح فرصاً لشباب من شتى المشارب الفنية للتفاعل مع التجربة والاستفادة منها ومناقشتها بحرية.
تأسَّس هذا المركز في الفيوم (غرب القاهرة) عام 1993، ويشتمل على متحف يعرض أكثر من ألفي رسم كاريكاتوري لفنانين مصريين وأجانب.
ويقول عبلة في مقدمة الكتاب: "اكتشفنا من خلال العمل في المركز زوايا أوسع للرؤية، ورصد الفراغات والفجوات التي يعاني منها واقعنا في جميع سياقاته الثقافية والفنية".
يركز عبله، عبر المذكرات التي يحويها هذا الكتاب، على سنوات دراسته في كلية الفنون الجميلة في الإسكندرية، "وما تناثر في طواياها من مفارقات الواقع، بخاصة الحيرة وما تفرزه من أسئلة وقضايا كبرى، أحسب أنها ستظل في احتياج إلى إجابات".
ولا تنفصل هذه الحيرة – كما يقول عبلة – "عمَّا نعيشه من الغزو الرهيب للتكنولوجيا وثورة الميديا والمعلومات، وما يفاقمها من بروز الذكاء الاصطناعي كندّ للإنسان". هذه الحيرة في رأي عبله لم تعد مجرد فجوة صغيرة يمكن ردمُها، وإنما اتسعت وتشابكت في دوائر وتعقيدات، بما يفوق قدرة العقل على التخيل، وطاقة الحواس على النفاذ فيما وراء الأشياء".
التوثيق بالرسم
تبدأ "الحكاية" في كانون الأول (ديسمبر) 1973، ومحمد عبله يقف عند محطة "ترام جليم" في الإسكندرية، بعدما سُدّت أمامه كل السبل. ثم تنتهي وهو في مطار القاهرة في صيف العام 1978 استعداداً للسفر إلى إسبانيا بهدف الاستزادة من الدراسة الأكاديمية.
كان يحمل ملفّ أوراقه الذي سحبه من كلية الفنون التطبيقية في القاهرة، ليقدمه إلى كلية الفنون الجميلة في الإسكندرية. لكنّ وكيل الكلية أخبره بأن التحويل من كلية إلى أخرى لا يتم إلا من خلال مكتب التنسيق. كان عبله عقب حصوله على الثانوية العامة قد تقدم إلى الكلية الحربية، بناء على رغبة والده، لكنه لم يكمل اختبارات القبول، والتحق بكلية الفنون التطبيقية لمدة شهرين، ثم قرَّر أن يتركها؛ لأن الدراسة فيها لم ترق له بسبب ازدحام منهجها بمواد نظرية وهندسية، رآها في ذلك الوقت معقَّدة، وقد يعطله الانهماك فيها، عن شغفه بالرسم الذي عُرِف عنه منذ أن كان تلميذاً في المرحلة الابتدائية.
الشاب الموهوب
بعدما رفض وكيل كلية الفنون الجميلة تسلم ملفه، فكَّر عبله في أن يبحث عن الفنان سيف وانلي (1907 – 1979) لعلَّه يقبل التوسط له، علما أن وانلي عمل أستاذًا لفن التصوير الزيتي في كلية الفنون الجميلة في الإسكندرية عند إنشائها صيف 1957. وعمل أيضاً مستشاراً فنياً في "قصور الثقافة" في الإسكندرية وكان رئيساً للجمعية الأهلية للفنون الجميلة.
كان يعتبر هو وأخوه الأصغر أدهم وانلي، من أشهر الفنانين التشكيليين في مصر، وكان مرسمهما مزاراً للفنانين والمثقفين لأكثر من 40 عاماً حتى بعد وفاة أدهم واستمرار سيف في مسيرته الفنية.
وبعد عناء، نجح عبله في مقابلة سيف وانلي في بيته، وحكى له مشكلته، فاتصل بعميد الكلية ليقنعه بقبول أوراق "هذا الشاب الموهوب". لم يقل وانلي ذلك مجاملة، فقد أطلعه عبله على بعض رسوماته وأعجبتْه. وبعدما قابَل عبلة عميد الكلية كامل مصطفى وأطلعه على رسوماته وأحاطه علمًا بمشكلته، أخذ منه أوراق التقديم وكتب عليها: "تُقبل أوراقه بالكلية لأنه فنان".
تستحوذ سنوات الدراسة الجامعية، على مساحة كبيرة من مذكرات عبلة المخصصة لسرد أبرز محطات سنوات التكوين، على أن يتبعها بأخرى عن بقية محطات حياته الزاخرة بالشغف بمختلف ألوان الفنون والآداب، وبالمواقف الشجاعة إزاء عدد من القضايا السياسية والاجتماعية.
سنوات التكوين تلك حفلت بالكثير من المتغيرات والتحولات، كما اشتبك فيها السياسي مع الديني وانعكس على تفاصيل الحياة اليومية، بحسب ما ورد في كلمة على ظهر غلاف الكتاب الذي صممه هاني صالح متكئًا على صورة فوتوغرافية لمحمد عبلة أمام لوحة زيتية. يكشف عبلة في هذه المذكرات، وفقًا للكلمة نفسها كيف تمكن مع فناني جيله من التفاعل مع سنوات السبعينات الملتهبة، وصاغ أسئلتها القلقة بروح المغامر الراغب في خوض الكثير من التجارب الفنية والإنسانية، وقد ظهر أثرها لاحقاً في مسارات عبله، كما بلورت منجزه وساهمت في تشكيله.
قلب ذئب
كان في الصف الخامس الابتدائي، عندما خصَّته جدته لأبيه، بقلب ذئب، أكله بعد طبخه، "وانطلقتُ بعدها في الحياة، دون خوف". ويقول: "انعكست حكايات جدتي زكيّة، على أعمالي وظلَّت في مخيلتي، وتسرَّبت إلى الكائنات التي أرسمها، بل إن الكلام الذي أسمعه عن أعمالي بشأن ولعي بالواقع السحري، ليس بعيدًا أبدًا من هذه الحكايات، فقد رسمتُ خلال بداياتي الكثير من اللوحات التي تماثل كلام نقاد الأدب عن الواقعية السحرية، كما عرفناها في أعمال يحيى الطاهر عبد الله ومحمد مستجاب وماركيز".
أما أمه، فحين لاحظتْ تعلقه بالرسم، كانت تحميه من ثورات أبيه، وتعطيه إشارات لتنبيهه عند حضوره إلى المنزل، "لكي أخبئ رسومي تحت الكنبة أو السجادة". ويقول إنه أخذ عن أبيه، أشياء كثيرة، أولُها جلَده وحبه للمغامرة ومزاجه في الاستيقاظ المبكر وحب السفر. وفي سنوات التكوين تلك، عمل عبله لفترة وجيزة، سبقت سفره إلى إسبانيا، رسَّام مشغولات ذهبية في مصلحة الدمغة.
وعن هذه المرحلة يكتب: "كنتُ أرسم مجوهرات نهارًا، وفي الليل، أرسم القاهرة وشوارعها وحواريها". ويضيف أنه كان سعيد الحظ؛ "لأني التقيتُ حامد ندا في سنوات الدراسة وشاهدتُه يرسم ويعطي توجيهاته للطلاب، وتبلورتْ علاقتي معه بعد أن وجَّهني لدراسة مقابر النبلاء وفهم منطقها الفني".
ومن أولئك الذين تأثر بتجاربهم، النحات الفطري عبد البديع الذي يعتبره "أسطورة مصرية"، بما أنه "لم يكتف بموهبته الفطرية، ولكنه حرص أيضاً على تثقيف نفسه ثقافة فنية عالية". ويقول إن عبد البديع لم يكن يرسم أي رسوم تحضيرية لتماثيله، "كانت تختمر فكرة التمثال في ذهنه، فيبدأ في التنفيذ مباشرة". وأيضاً سعيد الصدر "الذي أحيا فن الخزف المصري، بعد انقطاع مئات السنين، وفاز سنة 1952 بالجائزة الأولى على خزَّافي العالم".
"مع الفن عايشتُ العزلة والوحدة اللتين يحتاجهما الفنان بالضرورة، للعمل والإصغاء إلى رنينه الداخلي، وبرغم تلك العزلة فتح لي الفن آفاقًا عريضة، ودروباً لم أكن أتوقعها". هكذا يختصر عبلة علاقته مع فنّه، وهي علاقة حبّ وشغف وحياة.