النهار

"علّقت صوتي ضوءاً في ليل من حولي"
المصدر: "النهار"
"علّقت صوتي ضوءاً في ليل من حولي"
A+   A-

ليليان يمين

 

 

هكذا كنتُ أُعلّق صوتي ضوءاً في ليل مَن حولي، أُصغي ولا أملّ، أتحادث وأُحللّ،أُُفكك مشاعر الآخر وأعيشها. لم أكنْ أكتفي بالإتصال والمراسلة، بل كانت هناكلقاءات، وجهاً لوجه، نتقابل، أستدرج مَن معي إلى البوح بحقيقة ما يتعبه، ألتقطالدمعة قبل أن تُذرف، أتماهى مع عبارات مثل ما جاء على لسان موسى "أرني,أنظرُ إليك" وما لها من دلالات عن شوق اللقاء وحبّ الجمال والإيمان بعظمةالكلمة، كذلك قول ليوحنا الرسول "لديّ الكثير لأقوله، لكنني أفضّل أن نتقابلوأقوله فماً لفم". كانت الوجوه حاضرة في عالمي بقوة وعندما تتحدّث كانت تحضرأكثر فأراها وأخالها أقرب وأجمل.

 

هكذا كان، لكنّّ الحال تبدّل وغرقتُ في عالم القراءة، وهناك راحتتُطالعني شخصيات الأدب العالمي التي اخذتني إليها، إلى ما هو أبعد من ذاك التحادثقد يكون في أعماق المرء ما لايمكن نبشه بالثرثرة"، إيّاك أن تظنَّ أنّكتعرفني لمجرّد أنّي تحدثت إليك" يقول دوستويفسكي بعظمته. فشخصياته في الغالبكانت شخصيات شديدة الإنفعال، لا تعرف الإعتدال في مشاعرها ولا في سلوكياتها، تذهبإلى أقصى الطريق، فإذا سلكت، كما في «الإخوة كارامازوف»، طريق القداسة، أصبحت الأبزوسيما أو أليوشا، وإذا سلكت في الطريق المعاكس، أصبحت إيفان أو فيودور كارامازوف.وفي «الأبله» يسير الأمير ميشكين إلى أقصى طريق النبل والطيبة والصفاء، وفي«الشياطين» تسير شخصيات كثيرة في الطريق المعاكس، حيث طريق القسوة والعنفوالإرهاب. ألانفعالية الشديدة هي ما تميّز فلسفة نيتشه أيضًا، قمة الثورةوالتمرّد، هو نفسه قال عن نفسه إنه ليس بإنسان وإنما حزمة ديناميت. «إبنِ مدنك علىسفوح جبل فيزوف»، هكذا قال في كتابه: «العلم المرح»، ولدى دوستويفسكي شخصيات كثيرةعاشت على سفوح جبل فيزوف، وكأنها قرأت مقولة نيتشه واقتنعت بها فاختارت أن تعيشَفوق حمم بركانية، أو العكس، وهو الأسهل تخيّله، أنّ نيتشه قرأ شخصيات دوستويفسكيالمنفعلة المليئة بالدينامية، فكتب جملته: «إبنِ مدنك على سفوح جبل زيزوف»، تأثرًابها.

 

شخصيات سكنت فكري، أتحدث إليها وأتساءل معها، أستمدّ منها اليقين لشدةحقيقتها فأكرر مع الأمير ميشكين بأنّ الجمال سينقذ العالم. هكذا راحت تتوالى تلكالأسماء فيزداد معها انحرافي إلى ذاتي المنكفئة وصار أن يعذبني النطق ويحدث أنتغيّر غيمة عابرة دربي فأُخلف عن الذهاب إلى موعد مضروب وأن أُهمل الردَّ علىهاتفي. في هذه المرحلة إزداد شغفي إلى الكتابة، فكلما فاح عطر في الذاكرة كتبتُوكلما أوجعني غامض كتبتُ وكلما مررت بعينيه كتبت. وأنا اليوم هكذا أكتبُ كي لاأصدأ.

اقرأ في النهار Premium