الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي. (النهار)
في سنوات الربيع العربي، كانت أحلام مستغانمي خيمة المنتفضين، تلمّ شملهم عبر "فايسبوك" و"تويتر"، يتناقلون أقوالها وشذرات أدبيّة وطنيّة من هنا وهناك. كما تفعل القطة مع صغارها، راحت تجمع يتامى العروبة، لترثي وإيّاهم وطناً كنّا نريد أن نموت من أجله، "وصار لنا وطن نموت على يده".
"أنتِ صوتنا"
بعباءة سوداء مطرّزة بالأحرف العربيّة ابتاعتها في بيروت، كانت تسير في أروقة معرض الكتاب في إمارة الشارقة. حضرت مُكرَّمةً وحملت لقب شخصية العام، وقالت إنّها ليست بخير، ما دام أطفال لبنان وغزة ليسوا بخير. كانت تضع نظاراتها الشمسيّة التي تزيدها وقاراً وتقي عينيها الضعيفتين وهج الأضواء، وتمشي بخفّة وتبتسم لكلّ من يصافحها ويطلب صورة أو توقيعاً. دنا منها شابّ أسمر فارع الطول بجلّابية مزركشة، وعاجلها، قبل أن ترحّب به، بالقول: "سيّدتي أنتِ صوتنا". كان من حسن حظّه ذلك اليوم، هو الآتي من تشاد التي اختبرت القهر والتمزّق، أن يلتقي بالمرأة التي سحرت أجيالاً بكتبٍ لم تنحرف يوماً خارج دائرة الوطنيّة، والتي جمعت العمق الاجتماعي والبُعد القومي العربي بالنظرة الفلسفية للعلاقة بين المجتمع والمرأة من ناحية، والعلاقة بين الثقافة العربية المعاصرة والأحداث التاريخية العظمى التي أسست لها من جهة ثانية.
ذلك الشاب التشادي واحد من كثر جاؤوا ليلقوا تحيّة حبّ ووفاء على مستغانمي. أحدهم لا يزال يذكر جيّداً قصة بطل روايتها "الأسود يليق بكِ"، الذي أدرك متأخّراً، بعد الحرب الأهليّة، سذاجة رفيقٍ "مات دفاعاً عن كرامة صورةٍ لمشروع لصّ، أراد ساذج آخر أن يقتلعها ليضع مكانها صورة زعيم آخر لميليشيا. فمات الاثنان وعاش بعدهما اللصان".
ولادة في المنفى
عاش محمد الشريف مستغانمي النضال الجزائري، وعرف السجون المظلمة في أربعينيات القرن الماضي تحت الاستعمار الفرنسي. من قسنطينة إلى تونس، عَبَرَ منفياً بعد أحداث 8 أيار (مايو) 1945. لا وظيفة لمثله غير التعليم؛ لقّن جيلاً كاملاً مبادئه الوطنيّة والاجتماعيّة، وفي تونس أبصرت ابنته أحلام النور، وبين العاصمة ودار الباي في حمام الأنف، عرفت والداً مُحباً أطلق العنان لعصف أفكارها وجموحها الأدبي والفكري.
تستذكر بغصّة ليلة تحلّقت حولها وجوه رأت أخيراً ذلك الوجه الشاب المستتر خلف مذياع الراديو. ألقت أحلام شعراً حسّياً أخفته طويلاً عن والدها خوفاً من ردّة فعله، وحمدت الله أنّه لا يُتقن سوى الفرنسيّة، لئلا يكتشف ما تكتب. جُنّ جنون الحضور، وثارت ثائرتهم. رأوا في شعرها جرأة. ثم، كيف لامرأة أن تتغزّل برجل على الملأ؟ خرج والدها من المستشفى من دون علمها، يرافقه ممرّضان، وانتهر الحضور المستعدّ لنهش ابنته. دافع عنها وعمّا تريد أن تكون وأن تقول، ثمّ عاد إلى سرير المرض.
كاتبة قضيّة
عرف القارئ العربي أحلام مستغانمي كاتبةً ملتزمة قبل أن تكون كاتبة روايات تتماهى ونساءها الفتيات ويلجأ إليها الشباب لاستقاء نصائح الحب. طوال عقود، أتقنت مغازلة اللغة ومداعبة المشاعر، في قالب وطنيّ يطرح صراحةً أبعاداً سياسية. تجلّت في رواياتها، وعلى رأسها "ذاكرة الجسد"، قضايا كبرى، مثل الهوية والانتماء والصراع مع الاستعمار والجراح المتوارثة عبر الأجيال. وقد استطاعت مستغانمي أن تلامس قلوب القراء وتُعزّز حالة الانتماء لفكرة وطنيّة واحدة، ملهمةً أجيالاً للدفاع عن حقوقهم في مواجهة الأنظمة المستبدّة والتحديات السياسية والاجتماعية التي تعصف بهم.
في إمارة الشارقة، "قلعة العروبة" كما يحلو لها أن تصفها، كانت دردشة عفويّة بيننا وبين مستغانمي التي لا تهوى اللقاءات الإعلامية. نسألها عن حالة التمزّق التي تعيشها المنطقة العربية، ونُذكّرها بأنّها كاتبة قضيّة، وبأنّها "شمس جزائرية أضاءت الأدب العربي"، كما وصفها الرئيس الراحل أحمد بن بلّة، وبأولئك الذين آمنوا بغدٍ أفضلٍ موعود، يوم غصّت بهم ساحات الانتفاضة، من تونس إلى القاهرة فبيروت، وكلّ بقعة عرفت ثورة وطنيّة.
"فتحتَ جروحي"، قالت، "أظنّ أنّنا جميعنا لسنا على ما يرام". في صوتها مئات الخيبات، ومئات الأمنيات. "لا يمكن لأيّ عربي اليوم، أياً كان وفي أيّ مكان كان، أن يكون على ما يرام، لأنّنا نقف جميعنا على أرض متحرّكة، ولا أحد يعرف أين ستمضي بنا الرياح".
"إشارات المرور أمامنا مزوّرة"
نسألها: هل من استمرارية إبداعيّة في أرض تنبت شوكاً؟ يأتي الجواب واقعياً، "يصعب على الكاتب أن يكتب في هذه الفترة بالذات، لأنّك عندما تقف على رمال متحرّكة لا تملك وضوح الرؤية، رغم أنّنا نعرف الخطوط العريضة". تسأل بدورها "كيف تكتب؟ أين تمضي بجمهورك؟ ماذا تقول له؟ هذه مسؤولية وليس من حقّك أن تُخطئ. في حضرة الدم، على الحبر أن يسكت وعلى الإبداع أن يتواضع، لأنّه لا يمكن أن تزايد على الشهداء والأحياء بقصائد على الطريقة التي سادت في الماضي؛ إن لم تكن جاهزاً أن تتساوى معهم، فعليك أن تصمت، ليس لتصمت، ولكن لتهدي الوطن العربي عملاً عظيماً يخلد".
تستعيد بيت شعر من صديقها الراحل نزار قباني، "أنا يا صديقة متعب بعروبتي / فهل العروبة لعنة وعقاب؟". "يختصرني هذا البيت"، تقول، "أنا متعبة، وبإمكاني أن أنجو من العروبة وأن لا تربطني بها أيّ علاقة، ولكن يصعب جداً لأنّني تربّيت على قيم إنسانية، وليست فقط قوميّة، وأتعذّب لأجل كلّ البشر".
ليست أحلام مستغانمي كاتبة عابرة، بل هي من الأصوات التي تُعبّر عن أوجاع الشعوب وتطلّعاتهم، وتُعالج جراحات مستترة وتبحث في ماضٍ ترك ندوباً عميقة في النفس العربية. كلماتها ثوريّة، تُلهم بأنّ الحرية تستحقّ الكفاح، وأنّ التضحيات تصنع الأوطان، والعبرة في صونها. "القضايا العربيّة قضيّتي، ولا يمكن أن أُشفى منها، وواضح أنّه سيصعب أن أُشفى منها"، ترتسم ابتسامة على وجهها، كمن يسخر من القدر المحتّم، "على المرء فقط أن يختار توقيته ورسالته في هذا الظرف بالذات، لأنّ جميع إشارات المرور مزوّرة أمامنا. مشاكلنا واحدة، ألمنا واحد، وعجزنا واحد". إنّه ذلك العجز المتقاسم.