النهار

الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة... استراح القلب العاري!
شريف صالح
المصدر: القاهرة- النهار
في شباط/ فبراير عام 1961 أي قبل أكثر من ستين عامًا نشر محمد إبراهيم أبو سنة قصيدته الشهيرة "قلبي وغازلة الثوب الأزرق" في مجلة الآداب البيروتية قبل أن يصدر ديوانه الأول بالعنوان ذاته، وبينما يدنو من التسعين غيب الموت الشاعر الكبير، تاركًا خلفه إرثًا كبيرًا من الدواوين والدراسات الأدبية والمسرحيات والبرامج الإذاعية.
الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة... استراح القلب العاري!
الراحل محمد إبراهيم أبو سنة
A+   A-

في شباط/ فبراير عام 1961 أي قبل أكثر من ستين عاماً، نشر محمد إبراهيم أبو سنة قصيدته الشهيرة "قلبي وغازلة الثوب الأزرق" في مجلة الآداب البيروتية قبل أن يصدر ديوانه الأول بالعنوان ذاته، وبينما يدنو من التسعين، غيب الموت الشاعر الكبير، تاركاً خلفه إرثاً كبيراً من الدواوين والدراسات الأدبية والمسرحيات والبرامج الإذاعية.
اللافت أنه لم يهد قصيدته الأولى لشاعر كبير أو رمز ثقافي بل لصديق ورفيق درب كان مثله يتحسس خطاه الأولى هو الشاعر الراحل فاروق شوشة (1936 ـ 2016)
كلا الرفيقين أحب الشعر والثقافة وعملا في الإذاعة، وقد وفدا إلى القاهرة من الريف، أتى شوشة من ريف دمياط المطل على ساحل المتوسط، بينما ولد أبو سنة في آذار/ مارس عام 1937 في قرية الودي التابعة لمحافظة الجيزة غير بعيد عن قاهرة المعز.
تأثر الاثنان في تجربتهما الشعرية بالينابيع ذاتها، وأهمها الوعي الرفيع بالتراث الشعري العربي في صورته الكلاسيكية وقصيدته العمودية، كما تأثرا بحركة التجديد الشعري في شقيها التفعيليّ والحرّ، عبر تجارب السياب وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي أو أمل دنقل، وفي شقها النثري أو ما يسمى قصيدة النثر عند أسماء مثل أنسي الحاج وأدونيس وعفيفي مطر. وإن كان التأثر الأكبر ـ باعترافه ـ تمثل في الشاعرة العراقية نازك الملائكة، خصوصاً ديوانها "قرارة الموجة" حيث راح يردد قصائده بافتتان.
لا يقتصر التشابه بين شوشة وأبو سنة فقط عند زمن الميلاد، ولا الجذور الريفية، ولا الوقوع تحت التأثير المركب للشعر العربي في تجليه الكلاسيكي والحر وقصيدة النثر، ولا عملهما في مجال الإعلام حيث وصل شوشة لمنصب رئيس الإذاعة وأبو سنة لمنصب نائب الرئيس، بل يتشابهان أيضاً في تلك الإطلالة الكلاسيكية الرسمية الأنيقة في الزي والحضور الجسدي، وأناقة العلاقات الإنسانية التي تتسم باللطف والمجاملة والبعد عن الصراعات والقيل والقال.
ربما يرتبط ذلك الأداء الرصين المتحفظ بأصولهما الريفية من ناحية، ودراستهما المحافظة، لأن شوشة تخرج في كلية دار العلوم، وأبو سنة في جامعة الأزهر، إضافة إلى عملهما الإذاعي الذي علّمهما أن يزن كل منهما كلمته بميزان الذهب.
وبمعزل عن تقييم منجزهما الشعري، لا أحد ينكر دوريهما في تقريب الأدب والشعر والثقافة إلى عامة الناس عبر برامج الإذاعة والتلفزيون التي قدمها الرجلان، في زمن عصيب تكاد الثقافة تُمحى من وسائل الإعلام العربية عموماً.

حس عروبي
إذا صنفنا أبو سنة فهو ينتمي إلى جيل الستينات،  الذي تأثر بحركة المدّ القومي العروبي وانكسار يونيو. صحيح لا يملك مؤلف مسرحيات "حصار القلعة" و"حمزة العرب" تلك النبرة القومية والسياسية العالية التي يتردد صداها في شعر نزار قباني (1923 ـ 1998) أو أمل دنقل (1940 ـ 1983)، إلا أن تأثير الأحلام والانكسارات القومية ظل حاضراً في تجربته، وهو نفسه يعترف بأنه من أشد المعجبين بعبد الناصر، واستحضره في أكثر من قصيدة مثل "أغنية لعبد الناصر"، لكن لافتقاده النبرة العالية، والتفاصيل الدرامية الخاصة بمسيرة الشعراء، ظلت نجومية أبو سنة "منقوصة"، فهو اسم فاعل وحاضر لكنه ليس نجم شباك الشعر.
وقد واصل في هدوء ترقيه الوظيفي إلى منصب وكيل وزارة، ونال كل الجوائز الرسمية وغير الرسمية التي قد ينالها شاعر، منها جائزة الدولة التشجيعية عام 1984، وجائزة كفافيس 1990، وجائزة التفوق 2001، وأخيراً جائزة النيل 2024.

مريض بالرومانسية
وصفه لويس عوض بأنه "مريض بالرومانسية"، ولا أدري هل كان ذلك مدحاً أم ذماً؟! لكنّ الملمح الرومنطيقي لا يغيب عن شخصية أبو سنة وتجربته بامتداد ثلاثة عشر ديواناً منذ "قلبي وغازلة الثوب الأزرق" وحتى "تعالي إلى نزهة في الربيع"، ومن شعره نقرأ:
"شفتاك فاكهتان من عسل ونار
وكواكب بعثت من الزمن القديم
من السديم
ترف في أفق النُضار
وحشيتان كموجتين من السُّعار"
هنا لا يتخلص من الإيقاع الخارجي وموسيقى التفعيلة، والإرث الشعري الذي يتردد صداه في قصائد مجنون ليلى وجميل وكُثير عزة، إضافة إلى جرأة عمر بن أبي ربيعة وحسّيته. ولعل المقطع يكشف عن ملمحين متمردين في تجربته، أولهما تعمده الابتعاد عن القصيدة العربية بموسيقاها المعروفة متأثراً بتمرد شعراء الخمسينيات، وثانيهما تمرده على الحس الأزهري المحافظ وميله إلى الجرأة والحسية إلى حد ما.
كما يرتبط حسه الرومانسي بفكرة الحنان والعطاء وشعوره بالاغتراب، متأثراً بذلك بيتمه وفقد أمه في السابعة من عمره.
وللأسف تحول نعته "بالرومانسية" إلى تهمة مبتذلة ورائجة تبناها بعض الشعراء اللاحقين، خصوصاً من جيل السبعينيات.

بين عصرين
عندما بدأ أبو سنة نشر قصائده الأولى، قبل أن يتخرج في كلية اللغة العربية جامعة الأزهر، نشر في أهم الصحف والمجلات العربية، منها جريدة الأهرام، ورحب به نقاد وشعراء كبار مثل لويس عوض وصلاح عبد الصبور ومحمود أمين العالم وعبد القادر القط، بينما في سنواته الأخيرة، وبرغم منجزه وكل ما نال من جوائز، توارى بعيداً عن الأضواء وتعرض إلى قدر من التهميش والنسيان.
لكن لا شك بأن نصوص صاحب "تأملات في المدن الحجرية" لا تتوقف عند الهم السياسي والومضات الرومنطيقية بل تشتبك أيضاً مع أسئلة الوجود، وتمرر ومضات إنسانية تدعو إلى التمسك بالأمل وألا نتوقف عن الحلم بغدٍ أفضل، ومن ذلك قصيدته المعروفة "البحر موعدنا"، ومنها نقرأ:
"البحرُ موعِدُنا
وشاطئُنا العواصف
جازف 
فقد بعُد القريب
ومات من ترجُوه
واشتدَّ المُخالف
لن يرحم الموجُ الجبان
ولن ينال الأمن خائف
القلب تسكنه المواويل الحزينة
والمدائن للصيارف
خلت الأماكن للقطيعة
من تُعادي أو تُحالف؟
جازف ولا تأمن لهذا الليل أن يمضي
ولا أن يُصلح الأشياء تالف
هذا طريق البحر
لا يُفضى لغير البحر
والمجهول قد يخفى لعارف
جازف
فإن سُدّت جميع طرائق الدُّنيا
أمامك فاقتحمها لا تقف
كي لا تموت وأنت واقف"...

إعلان

اقرأ في النهار Premium