"ماريا" لبابلو لاراين، الذي افتتح مهرجان تسالونيك الأخير (31 تشرين الأول (أكتوبر) - 10 تشرين الثاني (نوفمبر))، هو الجزء الأخير من ثلاثية عن نساء شهيرات طبعن القرن العشرين، كان أطلقها المخرج التشيلياني في عام 2016 مع "جاكي" وواصلها مع "سبانسر" (2021). في الآتي، قراءة نقدية لهذه الثلاثية التي تستحق اعادة النظر في ضوء خروج فصلها الأخير.
كانت جاكلين كينيدي (ناتالي بورتمان) في الرابعة والثلاثين عندما اغتيل زوجها جون كينيدي في عام 1963. مقتله بين يديها أصابها بتروما. الأزمة هذه فتحت جرحاً عميقاً في وجدان واحدة من أشهر السيدات (1929 - 1994) المرتبطات بالتاريخ الأميركي الحديث، وأفضت بها إلى مساءلة نفسها ومراجعة إيمانها. يشرح الفيلم تفاصيل هذه التروما، وتفاصيل نضالها للصمود في وجه التغييرات السريعة، ومحاولة حماية "إرث" زوجها من الاندثار وسط انتهازيي "البيت الأبيض". فآلة السياسة لا تكفّ عن الدوران، ولا ترحم حتى في أحلك الظروف.
يقع الفيلم في الخطّ الفاصل بين الشخصي والعام، ويأتي بصورتين عن السيدة الأولى، واحدة تتمسّك بها في اطلالاتها التلفزيونية، وأخرى شخصية نكتشفها في عمل متقن. ناتالي بورتمان هي التي تجسّد دور جاكي. الشبه بينهما صادم. ولكن الممثّلة الكبيرة لا تكتفي بالشبه ولا المظهر الخارجي، فتمثيلها يستند في شكل أساسٍ على اللعب على أوتار الصوت والتحوّلات الداخيلة، لتطل بهيئة سيدة لم تكن دائماً قديسة. الفيلم لا يقدّمها أيقونة، بل يعرّيها من الداخل لنراها على حقيقتها ونلمس شعورها ونرافق براغماتيتها في تجاوز المحنة.
ثلاثة خيوط متوازية تتطوّر داخل السيناريو: الصحافي (بيلي كرودوب) الذي يحاور جاكي بعد مقتل زوجها في بيت العائلة بماساشوستس؛ استعادة الساعات القليلة التي تلت الاغتيال؛ اجراءات مراسم الدفن. سننتقل بين هذه الأجنحة الثلاثة، لنعايش - على غرار الفيلم الذي تتركّب أجزاؤه أمامنا - سيدة تحاول لملمة نفسها بعد حادثة مأسوية والتوفيق بين نظرة العالم إلى الاغتيال ونظرتها "هي" إليه، انطلاقاً من مقاربتها الشخصية للمسائل العملية. نتابع معها في الأيام القليلة التي تلت الاغتيال تطلعاتها إلى الحاضر والمستقبل، من دون أدنى حسّ ميلودرامي خبيث أو رغبة في استدرار التضامن.
يبرع "جاكي" في نقل النحو الذي يتم فيه التعبير عن الأحاسيس كافة: الخوف، الأسى، الحيرة. حتى عندما ترتسم ابتسامة صغيرة على وجه جاكي، فهذه تنم عن رغبة في ملامسة جوهر الحياة. ثمة مشهد بديع: عندما تبدأ جاكي في نزع ملابسها الملطخة بالدم، ثم نراها تحت الدوش. هذه الحميمية يبلغها الفيلم لقطة بعد لقطة، نتيجة اصرار كاتب النصّ والمخرج والممثّلة في عدم الالتصاق الباهت بدقة التجسيد، بل في ايجاد حلول خيالية بديلة. وثمة تفاصيل أحدٌ لا يعرفها لحسن حظ مخيلة صناع الفيلم الذين سدّوا كلّ الثغر. في النهاية، نخرج من الفيلم من دون أن نعرف مَن كانت فعلاً هذه المرأة، إذ يتبين أنّ كلّ ما قالته يعزّز غموضها أكثر ويبدد التصنفيات الجاهزة، وهنا سحر "جاكي" لأنه يبلور جانبها الغامض بدلاً من أن يكشف كلّ أوراقها.
"سبانسر": داخل سجن من ذهب
في سيرة الليدي دي (كريستن ستيوارت)، عناصر مغرية فنياً وأدبياً، تُختصر بحقيقة انها لم تحذُ حذو الأميرات، لا في نمط عيشها ولا في المصير الذي واجهته.
وبين تحوّلها إلى أميرة ولحظة رحيلها، هناك تفاصيل كثيرة مفقودة، أعاد لاراين جمعها في هذا الفيلم، بعدما فهم ان ما عاشته هو "فايري تايل بالمقلوب". حكاية "كان يا ما كانية" تقع في إطار تراجيدي. "ساندريللا" قصّة فتاة عادية صعدت إلى المجد. "سبانسر" حكاية أميرة تحاول الذهاب إلى النقيض. وهذا ما يسعى اليه الفيلم: الاصرار على هذا الجانب العادي لديها، بعيداً من الاسطورة التي صنعها الاعلام. في افتتاحية الفيلم، نراها وهي تقود سيارتها البورش، قبل ان تخرج عن النطاق الجغرافي الذي تعيش فيه، لتصبح فجأة "غريبة" عن المنطقة، فتبدأ في سؤال الآخرين: "أين أنا؟".
يبدأ الفيلم في مطلع التسعينات من القرن الماضي، وتحديداً عشية عيد الميلاد وحفل العشاء الذي تقدّمه الملكة في مقرها الريفي، ليتواصل في الأيام الثلاثة التي تلي هذه المناسبة. كلّ شيء شديد التقليدية في هذا الحفل. نعتقد أنفسنا في نظام عسكري تابع لدولة قمعية. لكن الأميرة التي عاشت كـ"شمعة في مهبّ الريح"، بحسب إلتون جون، قررت ان تعيش على سجيتها، خصوصاً وأن العلاقة التي تربطها بزوجها الأمير تشارلز بهتت وهناك شائعات تتناقلها التابلويدات البريطانية في شأنهما. في هذا المناخ غير المريح والمتأجج بالصراعات الخفية، تقع حوادث الفيلم التي هي ليست بالحوادث في نهاية الجولة، بقدر ما هي إمعان في دراسة حالة ديانا النفسية. تخيل لاراين ما كان قد حصل في القصر ومحيطه خلال الأيام التي أمضتها ديانا فيهما. سنكتشف عزلة الأميرة ووحدتها، وكذلك الحرية التي كانت تتوق لها وهي في كنف نظام ملكي معروف بصرامته وتقديسه للأعراف والتقاليد.
في سجنها الذهب هذا، تتعقّب كاميرا لاراين الأميرة، تبقى لصيقتها، في محاولة لاستخراج شيء آخر غير الذي نعرفه عنها. هي محاولة لأنسنتها، على الرغم من كرهي لهذه العبارة، فهي إنسانة قبل الفيلم ولا فضل في الفيلم في اضفاء جانب إنساني عليها، الا ان هذا ما يحاول المخرج فعله: نزع التاج الذي على رأسها لتقديمها في صورة لا تشبه تلك التي ارتسمت في المخيلة. ديانا إمرأة بسيطة، تعشق الحياة، ولكن ظروفها تمنعها من العيش. هي تمثّل في الثقافة الشعبية نموذجاً لشخصية تُعتبر صاحبة امتيازات تمرّدت عليها ونبذتها، وعلى غرارها قرر الفيلم ألا يكون تقليدياً، بل بحث عن الحقيقة داخل الغرف وبين الجدران وفي الأحاسيس المكبوتة، في محاولة لوصف ظروف عيش الأميرة ولكن أيضاً لتصوير النظام الملكي الذي عاشت في ظله.
"ماريا": ضريبة النجاح؟
توفيت ماريا كالاس (أنجلينا جولي) في باريس في العام 1977 بسكتة قلبية وهي في الثالثة والخمسين، لكن الظروف المحيطة بموتها لا تزال غامضة بعض الشيء اذ يُقال انها انتحرت، الأمر الذي يتركه الفيلم مفتوحاً. العديد من الأفلام تناولت سيرة هذه الفنانة المعذّبة، سواء في الروائي أو الوثائقي، ولعل الأكثر اكتمالاً هو "ماريا بعيني كالاس" للمخرج الوثائقي توم فولف. يقدّم لاراين تصوّراً لما كانت عليه الأيام الأخيرة للديفا، وماذا فعلت فيها وبمَ انشغلت وممّ تكوّنت حياتها في شقيها العام والخاص. الفيلم سينشغل بهذه الأسئلة محوّلاً إياها إلى متتاليات بصرية، ناقلاً الصراعات الجوانية للمغنية التي كانت قد توقّفت عن الغناء وتعاني من الوحدة وتحاصرها أشباح الماضي لا سيما طيف أوناسيس الذي أحبّته وأحبّها.
كالاس مصابة بالاكتئاب، والفيلم يجول حول هذه النقطة تحديداً، جاعلاً من العقاقير المضادة للاكتئاب شخصية في ذاتها، وسنرى كيف، عندما نشاهد الفيلم.
في زمن ماض، هذه الأشياء كانت لها تمسية واحدة: ضريبة النجاح. لكن، اليوم مع تبدّل المفاهيم في كلّ المجالات، بات من الضروري النظر في عمق السؤال من زاوية أكثر تعقيداً وأقل تحيزاً. باختصار، ماريا بحسب لاراين، سيدة مكسورة الخاطر، تعلم ان أجمل أيامها صارت خلفها. يصوّرها المخرج بعين متعاطفة وأخرى فيها شيء من الشفقة، ليتقاطع في النهاية مصيرها مع مصيري جاكي وديانا.