لا يُمهلنا فيلم "المتدرب" The Apprentice (2024) لنتبيّن سيرة الشخصية التي يقدّمها، ولا يتركنا ندخل في لعبة الإحالات والإسقاطات. يبدأ الفيلم بخطاب لريتشارد نيكسون، ينفي فيه أنه "محتال"، يتبعه مشهد يجالس فيه شابٌ فتاةً حسناء في نادٍ خاص بأصحاب السلطة والمال... لن نتساءل من هذا الشاب! فالإجابة حاضرة شكلاً ومضموناً: إنه دونالد ترامب!
الفيلم الذي أخرجه الإيراني علي عباسي (صاحب "العنكبوت المقدّس")، وكتبه الصحفي غابريل شيرمان، جاء عرضه العالمي الأول في الدورة الأخيرة من مهرجان كانّ السينمائي؛ وحينها وصفت حملة ترامب الانتخابية الفيلم بـ "الزبالة"، وبكلمات المتحدث باسم الحملة: "هذه القمامة محض خيال، يسعى إلى تضخيم أكاذيب تم دحضها منذ زمن طويل".
منذ عرضه في المسابقة الرسمية في "كانّ" (مايو الماضي)، رفضت شركات ومنصات كثيرة توزيعه أو عرضه، بما فيها "فوكس فيتشرز" و"سوني" و"سيرش لايت" و"نتفليكس" و"مترو غولدوين ماير" و"أمازون برايم فيديو"، وظل مستبعداً من الصالات والمنصات، إلى أن تولت شركة "برياركليف إنترتينمنت" توزيعه، ونزل إلى الصالات الأميركية في 11 تشرين الأول (أكتوبر الماضي). ولعل معرفة أن توم أورتنبرغ هو مدير تلك الشركة توضح منبع تلك الجرأة، وهو المعروف بإنتاجه أفلاماً إشكالية، منها "دبليو" (2008)، فيلم أوليفر ستون عن الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن، و"بقعة ضوء" (2015)، فيلم توم مكارثي عن فريق تحقيقات صحافية يتتبع الجرائم الجنسية بحق الأطفال في كنيسة بوسطن، وصولاً إلى دعمه فيلم مايكل مور "فهرنايت 9/11".
ترامب في السابعة والعشرين
بعيداً عن كل ما تقدّم، الفيلم ليس "زبالة" فنياً وسينمائياً، بل هو عكس ذلك تماماً؛ وبعيداً عن كونه يتناول ترامب وهو في السابعة والعشرين من عمره، فإن صورة الفيلم مؤسَّسة على سبعينيات القرن الماضي، بالتناغم مع ثقافة وموسيقى "البانك"، إذ تصدح أغنية لفرقة "كونسيومر" من هنا، وأخرى من "حلم بروكلين"؛ وهذه الأخيرة توقظ موسيقى "الديسكو" في الفيلم، بينما نشاهد شاباً يسعى إلى الأفضل والأفخم والأجمل، وتلبية غريزة امتلاك أجمل الثياب والنساء، على اعتباره شبيه روبرت ردفورد بوسامته وشعره الذهبي، ونحو ذلك من طموح يتشاركه معه الملايين في هذا العالم، وهو ما زال تحت جناح والده يجمع الإيجارات من المستأجرين؛ وهذه العجوز تعطيه نصف المبلغ، وأخرى تصفه بـ "مصاص دماء"، وآخر ما إن يفتح الباب حتى يرمي عليه ماء مغلياً، يتجنبه في اللحظة الأخيرة.
يتعرف دونالد ترامب (سيباستيان ستان) على المحامي روي كوهن (دور استثنائي ومدهش لجيرمي سترونغ) في النادي سالف الذكر، ويقبل هذا الأخير بمقاضاة الحكومة وجمعية مناهضة للعنصرية، تتهم ترامب الأب بالتفرقة العنصرية لكونه لا يقبل تأجير شققه للسود. ليس المهم فوز كوهن بهذه الدعوى بقدر معرفة الكيفية التي فاز بها، وقدرته على التلاعب بأيّ شيء! هو الذي عُرف بعلاقته المشبوهة بزعماء المافيا والسياسيين وعلاقته بالرئيس ريتشارد نيكسون، والدور الذي لعبه في ما عرف بالمكارثية، ومساهمته في التنكيل بعشرات الشيوعيين جراء اتهامات ملفقة من قبيل التآمر والخيانة، حين كان مستشاراً لجوزيف مكارثي ولجنته الشهيرة.
قواعد كوهن الثلاث
دخول ترامب عالم كوهن يغدو مفصلياً في تكوينه ونجاحه. فترامب تعلّم كل شيء من هذا الرجل، وثمة ثلاث قواعد يقدّمها كوهن على طبق من ذهب لترامب في إحدى الجلسات، تُصبح العصب الأساسي لكل حياته، والعمود الفقري لنهجه ثمّ نجاحه؛ وقواعد كوهن هي: "هاجم هاجم هاجم. انكر كل شيء ولا تعترف بشيء. لا تعترف بالهزيمة بل قل إنك انتصرت مهما كانت النتائج".
يسترسل كوهن قائلاً "علّموك أن تلعب بالكرة وليس بالرجال! لكنك ترى كيف أن الأمر معكوس تماماً في الواقع، فأنت تلعب بالرجال وليس بالكرة. ولتحصل على ما تريد، اِنس الكرة ونل من الرجال. هذه أمة رجال وليست أمة قوانين. ما من خطأ أو صواب. ليس هناك أحلام. ليس هناك حقيقة واضحة. ما من شيء مهم إلا الفوز، هذا كل شيء".
من الجيد إيراد ما تقدّم، لأنه الأسلوب الذي يحقق فيه كوهن كل شيء لترامب؛ فهو عبر لعبه بالرجال يحصل له على إعفاء ضريبي ليحقق حلمه ببناء فندق "غراند حياة" في نيويورك؛ فهو يبتز ويهدد ولا يأبه لقوانين أو قواعد.
صحيح أنه طموح، لكن هذا لا يكفي، وكم من مليون طامح بالكاد يحصّل رزقه اليومي! وهو مع توالي نجاحاته سيبتعد عن كوهن، وسيتجاهله، بعد أن أخذ عنه كل شيء، وفق ما يتضح في حديثه مع صحافي سيكتب سيرته؛ وكلّ ما يقوله ترامب هو إعادة صياغة لأفكار كوهن.
أعتقد أن أخطر وأهم ما في الفيلم هو تلك العلاقة، الأجواء التي تهيمن على لقاءاتهما، درجات الإضاءة المنخفضة، الفحش، الإسراف في كل شيء؛ ففي أكثر من نصف الفيلم يكون ترامب ظلَّ كوهن، وكل ما يطلبه رفقته ومباركته، والاستفادة منه في صفقاته، التي لم يكن لها أن تنجح لولا فساد كوهن واتّباعه قواعده الذهبية؛ وهذا لا يستثني زواج ترامب بإيفانا (ماريا باكالوفا)؛ فكوهن هو من صاغ عقد الزواج حرصاً على ثروة ترامب.
دراما الصعود والأفول
ليس سهلاً القول إن فيلم "المتدرب" صُنِع لينال من دونالد ترامب، على شيء من تصفية حساب سياسي أو شخصي معه؛ فهو أولاً فيلم مصاغ بحنكة على صعيد الصورة والسيناريو. إنه عن قصة نجاح رجل مغرور، وطامح، وعاشق، وشهواني؛ وكل ذلك يمضي ويتطور جراء علاقته بكوهن وما يهبه إياه من قواعد ومعارف وخدمات. بالتالي، فإن الرهان الدرامي الأساسي في الفيلم يكمن هنا. فمع صعود نجم ترامب، يأفل نجم كوهن، ويصل إلى نهايته المأسوية، هو المثليّ الذي ينفي ذلك. ولدى إصابته بالإيدز، يقول إنه مصاب بالتهاب في الكبد؛ وحين وفاته، يتغيّب ترامب عن مراسم دفنه، فهو تحت التخدير يجري عملية شفط شحوم وزراعة شعر. إنه فيلم عن متدرب ومتدرج في عالم المال والأعمال، ثم في عالم السلطه والنفوذ، يتعلم كل شيء عن معلمه ويحفظه، ثم يتبناه ويوظفه، ليدير له ظهره في النهاية.
ثمة علاقات أخرى تستكمل بناء شخصية ترامب، مثل علاقته بأبيه وأخيه، وبالتأكيد علاقته بإيفانا التي يهيم عشقاً بها، ويلاحقها في كل مكان، ثم يملّها، بل يكرهها بعد زواجهما، إلى الدرجة التي يقدم فيها على اغتصابها! وهذا ما قصده المتحدث باسم حملة ترامب حين قال عن الفيلم بأنه يضخّم "أكاذيب تم دحضها منذ زمن طويل".