كان آخر ما يخطر في بال وسام شعيب طبيبة النساء المصرية في مستشفى حكومي في محافظة البحيرة، أن تنام وتصحو لتجد نفسها حديث الساعة. ترك إعلامي مثل عمرو أديب أخبار الحروب ليصيح: "لا تأخذكم بها رحمة"، متهماً إياها بعمل "ترند على أجساد المصريات"!
فماذا فعلتْ؟
حكت وسام عبر مقطع فيديو عن حَمَل وعلاقات خارج الزواج، واستشهدت بفتاة (دون 18 سنة)، جاءتها برفقة أمها، زعمت أنها تزوجت قبل ثلاثة أشهر، لكن بعد الكشف عليها تبين أنها حامل في الشهر الثامن، وطلبت الأم مساعدتها في الإجهاض.
ناقضت الطبيبة كلامها. فهي بداية تحدثت عن عدم الحكم الأخلاقي على المريض، ثم استشهدت بحكمة جدّتها الأخلاقية، وأبدت عدم تعاطفها مع المرأة لأنها لم تعرف كيف تربي ابنتها، مفترضة سوء سلوكها! برغم أن الفتاة قد تكون ضحية.
في اليوم التالي أجرت عملية ولادة لأم من دون زوج، فأبلغت الشرطة، ثم تبين أنها متزوجة عرفياً من شاب في العشرين يصغرها بـ15 عاماً، ثم اكتشفت أن الشاب مُستأجر للتستر على طفل غير شرعي. وانتقلت إلى واقعة ثالثة لزوجة ضُبطت مع شاب صغير السن. وبناءً على تلك الوقائع انتقدت ما يسمّى "التربية الإيجابية" واختلاط الأولاد والبنات، وأفلام السبكي ومحمد رمضان، ودعت كل أب إلى إجراء تحليل DNA للتأكّد من نسب أولاده!
ردود فعل غاضبة
أعلنت نقابة الأطباء عن فتح تحقيق، ودان المجلس القومي للمرأة الطبيبة لإفشاء أسرار مريضاتها والإساءة إلى نساء مصر، وأن ما فعلته تحت شعار التوعية المجتمعية هو مخالفة لأخلاقيات مهنة الطب وإثارة للرأي العام.
رغم ذلك كان ثمة من دافع عنها، لأن ما عرضته نماذج في الواقع، على رأسهم المحامي المعروف منتصر الزيات، الذي تحفّظ على اتهامها بإفشاء أسرار المريضات، رغم أنها لم تذكر أي أسماء. واستغرب "الحملة" ضدّها لمجرد أنها تنبّهنا من مخاطر اجتماعية.
وحسب تصريح محاميها، فإن النيابة وجّهت إليها ثلاث تهم: تكدير الأمن والسلم العام، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي لإثارة البلبلة بين أطياف الشعب، واستخدام ألفاظ مسيئة.
أي أنّ النيابة كانت حذرة في تهمة "إفشاء أسرار المريضات"، لكنّ الوقائع التي ذكرتها، تثير البلبلة بين الناس، وتكرّس تعاميم خاطئة، إضافة إلى استعمال ألفاظ لا تليق بطبيبة.
أين أخطأت؟
على المستوى الطبي والإجرائي، عندما تأتي إليها طفلة حامل، وترغب أمها في إجهاضها، يفترض أن تقدّم لها الرعاية وتعرّفها بحقوقها وخطورة الإجهاض، وتتأكّد أنها ليست ضحية، وتبلّغ الجهات المختصة، لكنها بدلًا من ذلك اكتفت بالحكم عليها أخلاقياً واتهام أمها بأنها فشلت في تربيتها.
على مستوى الفيديو، أخطأت في التعميم ودعوة الآباء للفحص، والألفاظ غير اللائقة، والتباهي بنزعة أخلاقية محافظة تكسب بها "الترند" لدى الشرائح المحافظة والمتدينة، والاستعلاء على مرضاها وإظهار الاحتقار لهم والتشفي ضمناً في مصائبهم، زاد من ذلك نبرة صوتها المستفزة و"النظّارة" الضخمة التي تخفي ملامحها، لذلك أسلوبها كان أكثر استفزازاً لجمهور "السوشيل ميديا" بل أكثر من الوقائع ذاتها، ويتنافى مع تصريحات لاحقة لها بأن هدفها كان النصح والإرشاد. أي كان بإمكانها أن تذكر الوقائع بطريقة مقبولة.
لماذا لا نعتبرها ضحية؟
على رأي المثل "من فمك أدينك"، تكشف إجراءات وسام عن ضعف أدائها، وعدم إلمامها بجوانب طبية وقانونية تتعلق بوظيفتها، ما يدقّ ناقوس الخطر حول مستوى التدريس في كليات الطب.
لذلك، علّقت الدكتورة جيداء مكي ـ الأستاذة في إحدى كليات الطب ـ بأن طالب الطب يتعلم ثلاثة أساسيات: المعرفة أو المعلومات، والصنعة أو المهارة الطبية من أساتذته، والأسلوب الذي يعبّر عن "الأكواد" المظهرية والجسدية واللغوية والأدائية للطبيب. واعتبرت أن وسام ضربت الأسس الثلاثة، لأنه لا يحق لها أن تحكي أو تتفاخر أو تسخر بهذه الطريقة. هنا اللوم على من علّموها!
كما تفتقد إلى التدريب الإعلامي، والحضور، وعمق الثقافة، وهي هنا ضحية تراجع دراسة الإنسانيات مثل الآداب والفلسفة والفنون في الكليات العملية، ما يترتب عليها تخريج شخصيات مهنية بالغة السطحية أو متشدّدة دينياً وأخلاقياً.
وبالرجوع إلى مقاطع فيديو سابقة لها، يتبين أنها تدور حول النمط نفسه من الأداء والتفكير السطحي والمحافظ، والرغبة في ركوب "الترند"، واللعب على غضب مجتمعي مكتوم حول الانحلال الأخلاقي والعلاقات خارج الزواج، في ظل ضغوط اقتصادية لا تخفى. فالمأزق أنها لا تتجاوز النبرة الأخلاقية والاستعلاء على الناس، وتتجاهل تعقيدات كثيرة. مثلما أن قمعها والمبالغة في إدانتها وعقابها، قد يكرّس ثقافة الخوف وضعف الشعور بالمسؤولية الاجتماعية.
إن ولع وسام بهذا النمط من الأداء، يرجع إلى عاملين متداخلين، أولهما حس التباهي والاستعراض ـ برغم أصولها الريفية ـ سواء في هيئتها أو إصرارها على ترديد مفردات إنكليزية، والتصوير وهي تقود سيارتها، كلها "تصرفات" تعكس زهواً خفياً وطبقياً، وتمرّداً على "بلاوي" المجتمع الريفي الذي تنتمي إليه، عكس الإطلالة المغايرة التي ظهرت بها في النيابة.
العامل الآخر أنها ـ مثل ملايين البنات ـ ضحية مجتمع الفرجة، والحضور في المنصات بصور ومقاطع فيديو وتصرفات غريبة وألفاظ خادشة، من ثم يتحولن إلى موضوع استهلاكي لشركات كبرى، تتغذّى عليهن، مع ذلك يواصلن ترجمة حضورهن إلى شهرة ومكسب مادي. والنتيجة أن الإنسان الحقيقي يختفي لمصلحة قرينه الافتراضي، ويخسر علاقته الحقيقية بالواقع، وتعاطفه مع الناس.
فرغم أن وسام بدت "جلّادة" لمرضاها ومجتمعها، لكنها في حقيقة الأمر "ضحية" هذا المجتمع نفسه الذي أفرغ كل شحنة الإحباط والغضب فيها، و"ضحية" السوشيل ميديا، التي دفعتها إلى بناء شخصية "كارتونية" واستعراضية بدلًا من أن تصبح طبيبة حقيقية، "حكيمة" كما كانوا يسمّونها قبل سنوات قليلة.