لا تزال رواية "هُواريّة" التي صنعت لهيباً من الكلام في الوسط المجتمعي بالجزائر خلال الصائفة الفائتة، تجرّ الأحاديث تلو الأخرى رغم مرور فترة زمنية هي كفيلةٌ بإخماد تلك النيرانُ المغلّفة بكريات الثلج المتساقطة على الجدران المتهالكة. و"هُواريّة" لكاتبتها الجزائرية إنعام بيوض، صاحبةُ الحضور الأدبي والفني على مدار عقود وأعوام، كاتبةٌ وشاعرةٌ وفنانّةٌ تشكيليّةٌ ومُترجمةٌ وروائيّة، مؤلّفة "السمكُ لا يُبالي" الرواية الصادرة في بيروت عام 2003، وعناوين أخرى كثيرة حازت بها عديد الجوائز كانت آخرها جائزة "آسيا جبار" للرواية شهر تموز (يوليو) الماضي.
"ما يحزّ في النفس تدهور المستوى الفكري وتقهقر المستوى الأكاديمي وانعدام المستوى النقدي"، كما تقول الدكتورة إنعام بيوض لـ"النهار"، مشيرة إلى أن روايتها "هوارية" التي أحدثت ضجيجاً بعد تتويجها بجائزة "آسيا جبار" صدرت قبل 9 أشهر من حصولها على الجائزة، متسائلة: "كيف يفسَّرُ هذا الصمت؟!".
إنعام بيوض، التي تشغل منصب مدير عام المعهد العالي العربي للترجمة بالجزائر التابع لجامعة الدول العربية، ترى أن "هُواريّة" تجرّنا كقراء إلى قاع الواقع "إلى ما نجهله أو نحاول الهروبَ من تفاصيله الصّادمة بتعبير الروائيّ اليمنيّ الكبير حبيب عبد الرب سروري بعد قراءته للرواية"؛ وتضيف: "بالفعل، هي محاولة لسرد تجربة أكثر من 10 أعوام عشتها في مدينة وهران غربي الجزائر، حيث تغلغلت في أحيائها وحواريها وناسها الذين أحبوني كما أحببتهم"، لتلفت إلى أن "تعرِيةَ المسكوت عنه تبقى دوماً مؤلمةً غالباً ما نقابلها بالنكران والمداهنة".
تعرضتِ لحملات عديدة على منصات التواصل الاجتماعي بسبب "هوارية". كيف رددت؟شخصياً، لا أملك أي حساب على منصات التواصل الاجتماعيّ، ولم أطّلع إلا على ما نُقل لي من تدخلات، بعضُها كان بنّاءً لكن البعض الآخر لا يمكن حتى تكريمه بردّ، ولئن صدر عمن يعتبرون أنفسهم نقاداً أو أكاديميين.
هل نشهد تراجعاً في الانفتاح الفكري المجتمعي بالجزائر؟عندما تتحول القيمُ إلى شعائرَ والوسطية إلى مغالاة تحدث بالضرورة تكلّسات تمس الفكر والرؤية الكُلية للعالم وترتفع الحواجز والخطوط الحمراء من كل جانب، ويصبح من يفكّ الحرف فقيهاً ومن سخّن مقاعد الدراسة عالماً"، وتؤكد: "لا أعتقد بوجود تراجعٍ في الانفتاح الفكري داخل المجتمع الجزائريّ لأن الإنتاج الإبداعي والفكري لا يزال قائماً، لكنّ الأصواتَ المتنافرةَ من على منصات التواصل تطغى في بعض الأحيان على رصانة ورزانة المبدعين الحقيقيّين، غير أنها لا تعدو كونها فقّاعات لا تلبثُ تتفجّر وتتلاشى بما فيها وكما يقول المثل الجزائري:"ما يبقى في الواد غِيرْ حْجَارُه".
هل ترين هذا الهجوم على "هوارية" نفاقاً اجتماعياً؟النفاق الاجتماعيّ وحتى السياسيّ موجودٌ في كل المجتمعات لكنه استشرى أخيراً تحت وطأة تيارات تحتكرُ اليقينيات والغيبيات. ألا تشكّل ردود الفعل المتباينة العربية والغربية إزاء معاناة أهلنا في غزة ولبنان نِفاقاً سياسياً واجتماعياً بامتياز؟. قد تدخل الهجمات التي تعرضت لها الرواية ضمن هذا المسمى، لكنها تكشف عن ظاهرة صحيّة وهي تحريكُ المشهد الثقافي المكتفي بذاته والوعي بأهمية الكتابة والأدب عموماً في الكشف عما تعشاه العيون وتنكره الأذهان.
هناك من وقف إلى جانبك، مثل الكاتبين واسيني الأعرج والحبيب السايح وغيرهما، بوجه حُراس معبد الأخلاق.بالفعل، كان لتلك القاماتِ الأدبيةِ البارزةِ موقف مشرّف لن أنساه ما حييت ولا يزال يمُدني بالقوة على المثابرة والمضيّ في دروب الإبداع بمختلف أشكاله. ولا يفوتني أن أذكر الكاتب لزهاري لبتر الذي نشر منصة تضامنية على النت وقّعها مئات القرّاء والكتّاب، والروائية نجوى بركات التي استضافتني في برنامجها الرائع. كان لمساندتهم وتحليلاتهم ونقدهم وملاحظاتهم أكبر الأثر في نفسي.
ماذا عن غيابك عن المشهد الثقافي في الجزائر؟أنا حريصة على متابعة وحضور أغلب التظاهرات الثقافية والأدبية، بما يسمح به وقتي. لا أظنني غائبة تماماً، فقد زرت نسخة هذا العام من معرض الجزائر الدولي للكتاب ، وشاهدت جمهوراً متعطّشاً يدور بين الأجنحة المختلفة مع ملاحظة وجود أعداد كبيرة من الناشئة والشباب، وهذا ما سرّني فعلاً.
أي سرّ تبوح ب إنعام بيوض؟لم تكن لدي الشجاعة لأغامرَ بأسرتي وأتفرّغ للكتابة التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع في بلداننا، خاصّة أني كنت أُعيلها بمفردي؛ ثم إن ميولي نحو الفنون التشكيلية يأخذ قسطاً من وقتي، إضافة إلى مسارٍ مهنيّ أكاديميّ في الجامعة الجزائرية وعلى رأس المعهد العالي العربي للترجمة التابع لجامعة الدول العربية ومقرّه الجزائر. لو كنتُ في بحبوحةٍ، لما اخترت سوى الأدب والرسم، فأنا ككل الناس أكتب لنفسي أولاً ثم لمن يقرأ.
ماذا تقولين في روايتك "السمك لا يبالي"؟كانت ترمي إلى البحث عن زمن هانئ فقدناه بين فورات التطرّف وتجاعيدِ الإحباط. نتلمّس من خلاله مشروعَ مستقبلٍ باهت الآفاق. طرحَت الرواية العديد من الأسئلة التي لا تزال معلّقةً تُصيبنا بدوّار الصدمة وآنية الوجع. كانت الجزائر آنذاك قد خرجت لتوّها من فاجعة العشرية السوداء، فجاءت الرواية تنُوس بين التسجيليّ والتخيّلي.
أخيراً، أنعود إلى البدايات؟دار الفارابي نشرت لي "السمك لا يبالي" وكتاب "الترجمة الأدبية مشاكل وحلول". أتمنى التعامل من جديد مع دُور النشر اللبنانية التي جعلت من صناعة الكتاب فناً وحرفةً. لبنان أحب البلدان إلى نفسي، ولي فيه أجمل الصداقات وأمتنها، وما يعيشه لبنان يُشعرني بألمٍ واستنكارٍ شديدَين، ألمٌ مردّه العجز عن فعل شيء واستنكارٌ لمواقف المنبطحين ومصّاصي دماء ونسغ الشعوب التي لا تطلب إلا العيش ولو بمحاذاة الحياة.