منذ زمنٍ لم أخُطّ سطرًا جديدًا فيه أنا. لكأنّي لم أكتب يومًا كلمة، ولا الأبجدية بذورٌ زرعتُها ونثرتُها في حقول الأخيِلة، ورصّعت بها تلال الأفكار... لا أذهب إلى الكتابة قصدًا. لا أستعجلها. بيننا لعبةٌ قديمة، وسِحرُ غوايات، نتبادلها بمَكرٍ وأناة، ومواعيد تُضرب بين الصّحو واليقظة، وخصوصًا حين يصبح الوجود غيرَ قابلٍ للعيش بدونها.
لكَم هي متجبرةٌ، مغناجٌ، غانيةٌ، تُقبِل وتُدبِر على هواها، وكلّما راودتُها أمعنت في العُتوِّ، تعالت. ليست هذه العباراتُ مقدمةً طلليةً على غرار قصيدة الشاعر الجاهلي، وهي طريقةٌ لجلب اهتمام السّامع، بقدر ما هي حالةٌ بين العجز والحَيرة، فلكأنّي لا أملك من أمر الكتابة حرفًا.
عقب حملات هوجاء شنّها العدُوُّ بعد السابع من أكتوبر 2023، رأيت كتّاباً سارعوا الى الكتابة والتدوين، كأنهم يتدفقون على قدر الاستنكار وحُمّى الغضب!
عجزت أن أجاريهم، مُتخمٌ أنا بالمائدة الدموية التي تُقدمها قنواتُ التلفزة في العالم أجمع على مدار 24/24 والشاشاتُ البيضاءُ تغطيها أكفانٌ أنصعُ بياضًا. موتَى، قتلَى بالعشرات، صاروا آلافًا، يلتحقون تباعًا بقافلة الشهداء، لها أوّلٌ وبلا آخر.
بعد عام وصلاةُ الجنازة قيامٌ متّصل، الأرض ما عادت من تَعدادهم تَسَعُ القبور. لا أعرف بأيّ قلوب يتحمّل من تبقّى من الأحياء جمعَ الأعضاء، فيهم الأمهاتُ والزوجات، ناهيك عن الرُّضَّع والخُدَّج يُطلّون على الحياة وهُم أموات.
ماذا تكتب لتكتب أيها الكاتب المرفَّه، الجالسُ على أريكة مُريحة قبالة تلفزيون، يجوز أنك تتناول طعامًا وشرابًا، سقفُ بيتك ثابت. يقينًا لن يسقط فوق رأسك. يقينًا إذا ذهبت إلى مضجعك ستستيقظ في الصباح لم يشتّت مخكَ صاروخٌ وجسدُك مِلككَ لم يتبعثر في هواء البارود أشلاءً. ماذا بوسعك القولُ أمام كلّ هذا الهول؟ ماذا تكتب إزاء ما لا يُسمّى من وحشيةِ وهمجيةِ العدوّ وإنما يُسمِّي جنرالٌ شهداءنا مجرّد حيوانات.
الأنكى من هذا يأتي كاتب بالفرنسية محسوب علينا ينبهه، "جنرال، هم دون مرتبة الحيوان بكثير"! ولهذا أجدني منساقًا إلى تقرير أن اللغة اختُرعت بعد الأشياء، اخترعها الإنسان ليعرفها ويمتلكها ويتداولها. قتل قابيلُ هابيل، أولًا، ثمّ وُصِف فعلُه بالقتل. قصفَ جيشُ السّفّاح نتنياهو غزّة طيلة عام ويواصل بدموية لا تُضاهى في مجازر التاريخ، فأباد أربعين ألفًا ونيف، ودمّر العمران، سوّاه بالأرض، مزّقها، طعنها، وما كفاه هذا، فجوّع عشراتِ آلاف الأفواه، وما زال عطشانًا لأنهار من الدم. وأمام هذا العنف، لن تُسعفك القواميسُ والاستعاراتُ من جميع اللغات لتسمِّي ما حدث فلن تجد لوصفه أبدًا أسماء.
هناك عبارة تجري سهلة على الألسنة حين يستعصي القول إزاء أمر مثير للإعجاب، فنردّد: "إن اللسان ليعجز عن التعبير (كذا)". لكني هنا في موقع وموقف مثيرين، أفظعُ وأهْوَلُ من الوصف. علمًا بأننا لكي نصف نحتاج وجوبًا للكلمات، مهما بلغت من التقصير، ونحن ندرك، أو نعلم ضمنًا، أنها وسيط، لا أكثر، وهذه إحدى معضلات فنّ المحاكاة، إذ مهما بلغت الدِّقةُ لا ولن ننقل، لن تصف الشيء بحذافيره، إذ هو يتحدّى اللغةَ، والأسلوبَ، والبلاغةَ، أيضًا، حين تمتشق أداة المحسِّنات البديعية كي تنتصر على العجز، وفي حالتنا يا له من عجزٍ رهيب.
على خلاف الكلام، اللغة، النصّ المكتوب، فإنه يوجد بهذه الوظيفة، يزعم أنه يتحمّل وِزرها، نقلَها من التجريد إلى المحسوس، ومن الفردي، الخصوصي أو الحميمي، ليشترك عددٌ كبير في الإحساس به، ولو جزئيًا، وهي مغامرةٌ حقيقية، ورهانٌ صعب لا ينتبه إليه كما يجب من يدّعون بخفِّة أنهم يعبِّرون عن كذا وكيت، غافلين عجبًا، أنهم بفعل الكتابة بصدد عملٍ مختلفٍ له أدواتُه ونظامُه ونَسقُه. أنه يقوم بعملية تحويل جذرية مثل الصائغ الذي يحوِّل المعدنَ الخامَّ إلى صنيعة أو حِلْيَة، فيصبح شيئًا آخر ولو عددنا احتفاظه على جوهره، روحه، إذ الشكلُ مضمون، أيضًا. من هنا يصحّ القول إن الكتابة خَلْق، طبعًا، لا من عدم، وبحواملها ومرجعياتها ومكنوناتها، تبقى مستقلة. هكذا، هي بين موقعين، إدراكَين وصياغتين، وينبغي تتبُّعها وتلقِّيها في برزخ.
أبدو وكأنّي أبتعد عن موضوع انطلاقي، عن غرضي من كتابة هذا النص، وإن عندي لم أزِغ عنه أنملة. فأنا إذ أسائله، إنما أبحث عن مستحيل، فالأدب الذي أريد أن ينضوي فيه الكلام، لأن سواه لغوٌ وثرثرة، هو المستحيل عينُه ما دام طموح ووهم (مبدعه) أن يعبِّر ويشخِّص ويُعيد خلق ما يتصوره ناقصًا وهو من سيهَبُه الاكتمال، بل الكمال، وهذه عبارة أخرى للمُحال.
مُحالُ الكاتب العربي اليوم في زمن الهمجية الإسرائيلية، وآلة التدمير الصهيونية تجاه غزّة ولبنان، ومن خلالهما الشعبان الفلسطيني واللبناني، في قلبهما العرب كلهم؛ المُحال أمامه أن يصور بأي عباراتٍ ما حدث. كيف تصف قتل الرُّضّع، واختناقَ الخُدّج بدون كهرباء، وآلافَ الأمهات والزوجات الثكالى المردوم فوقهن الطوب، والرجالَ والفتيانَ والعجزةَ أولًا تتطاير أشلاؤهم، ومن أضاعوا الآباء والأمهات، والأسماء، ومن يطاردهم العدوّ بالترحيل من شمال لجنوب ويعيد الكرّة من جنوب لشمال، وهم يحملون بقايا لا شيء، هم في التّيه. لا، عبثًا سيبحث هذا الكاتب عن بلاغة المقاومة ورصف قاموس المأساة. في غزّة نفسها حاول الكُتاب وصف بعض ما جرى، وجاء قولهم وهو صادق جدًا أعيا من الواقع الرهيب للقتلة. لذلك، وبعدما أفنت إسرائيل آلاف الفلسطينيين، ودمّرت بيوتهم، وتفعل الشيءَ نفسَه في لبنان، أعلن عجزي واستقالة كتابتي عن هذه الأهوال. هي في حاجة إلى لغة وبلاغة أخرى. في حاجة إلى الموت فداءً، لا لغة عندي ولن أكذب على أحد لأقول إني سأعبّر. الدمّ وحده لغة الكلام.