النهار

قبل أن تتحوَّل دور السينما في رام الله إلى مواقف سيارات وأسواق تجارية
فلسطين- مرال قطينة
المصدر: النهار
قبل أن تتحوَّل دور السينما في رام الله إلى مواقف سيارات وأسواق تجارية
سينما دنيا في رام الله قبل هدمها
A+   A-

لا أذكر المرة الأولى التي ذهبت فيها إلى السينما أو شاهدت فيلماً، لأنني كنت أصغر من أن أتذكر أي شيء... ففي أعوامي الأولى، أصبحت رفيقة جدي في نزهته اليومية بعد الظهر. كنا نخرج من المنزل قبل الغروب باتجاه شارع الأرسال، أحد أجمل شوارع رام الله، المدينة الصغيرة في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، بعد أن نقطع شارع المعرض، لنصل الى دوار المنارة ونكمل طريقنا باتجاه قصر الحمراء. في بعض الأحيان، كنا نصل إلى برج الأذاعة حيث تنتهي "الكزدورة"، كما كنا نسميها.

في طريق العودة، كنا نعود أدراجنا من شارع ركب، ثم نقطع الشارع من جهة "بوظة ركب" ونتوقف عند "بقالة جورج" لنشتري الخبز وبعض السكاكر والشوكولاتة التي كنت أحبها، ونكمل بعدها باتجاه "شاورما أبو اسكندر"، إلى أن نصل إلى "حلويات دمشق" فنقطع الشارع. 

 

 

كان الشارع الرئيسي يومها أهم شوارع رام الله وأكثرها حركة، وكان جدي يتفحص برنامج العروض ليختار الأفلام بعناية، فإذا أعجبه أحدها اشترى التذاكر لندخل مباشرة إلى قاعة العرض. في البيت، لم يكونوا يقلقون لغيابنا، فكانت جدتي تعلم إن تأخرنا فقد مررنا بالتأكيد على السينما.

ما كانت "سينما دنيا" بعيدة عن بيتنا أكثر من 150 متراً تقريباً، كانت مشهورة بعرضها الأفلام الأجنبية، خصوصاً أفلام "الويسترن" أو "السباغتي ويسترن"، وكانت من أكثر دور السينما في المدينة استقبالاً للعائلات والطلاب والشباب والشابات وزوار المدينة، كما كانت لعروض أيام الأحد نكهتها الخاصة.

في السنوات التالية، أذكر أنني في أحد العروض شعرت بالنعاس وأنا أشاهد أحد أفلام سيرجيو ليون، لا أذكر أياً منها على وجه التحديد، ربما "حدث ذات مرة في أميركا"، فتسللت بكل هدوء، وأكلت بعضاً من الخبز وغططت في نوم عميق. وعندما انتهى الفيلم، تنبه جدّي إلى أنني لست بجانبه، فبدأ يبحث عني مع مراقب القاعة، حتى وجداني نائمةً تحت الكرسي فحملني وعاد إلى المنزل. كان يضحك كثيراً لأنني غافلته وأكلت الخبز الذي اشتراه للحمام والعصافير.


    

 

السينما حياة 
فكرت دامئاً بأسباب تعلقي بفيلم "سينما باراديسيو"، وكنت أجيب نفسي دائماً بالنوستالجيا التي أشعر بها لتلك المرحلة من طفولتي، عندما كانت الحياة أقل تعقيداً وأشد بساطة. كانت مليئة باللعب والضحك والمغامرات التي لا تُنسى ولا تُمحى نهائياً من الذاكرة، فالسينما حياة.. والحياة فيلم سردي طويل نختبر فيه الدراما والأكشن والرومانسية والكثير من الخيال، توثقها ذاكرتنا على شكل مشاهد أو لقطات سريعة، تعلق خلالها بعض الموسيقى في الخلفية.

"فلاش باك" سريع لرام الله في تلك السنوات، المدينة الصغيرة التي تحولت خلال الحقبة التالية إلى مدينة أكبر مما أرادت ربما، لكنها لا تشبهها كثيراً. فيها الكثير من التشابك بين الحنين إلى الماضي وحقبة ما بعد الحداثة، الغربة والسفر والعودة إلى الجذور حيث أم البدايات، الهوية والتطور المرحلي بين الطفولة والسينما من خلال "بوسترات" الأفلام وصور بقيت مطبوعة في الذاكرة عن الشارع والحي والمدينة.

 

 

في عام 1987، خلال الانتفاضة الأولى التي عرفت أكبر حركة عصيان مدني بعد ثورة 1939 وأوسع نضال شعبي وتكافل إجتماعي، أغلقت "سينما دنيا" أبوابها كما الكثير من الأماكن في تلك الفترة، وهُدم المبنى في عام 1997، وبقيت قطعة الأرض الفارغة موقفاً للسيارات سنوات عدة قبل أن ينتصب فيها سوق تجاري.

تميزت رام الله بالتنوع الثقافي والفني، ومن مظاهره بروز ثلاث دور سينما: "دنيا" التي شيدت في عام 1945، و"الوليد" في عام 1955 وهدمت في عام 2002 بسبب السيناريو الذي شاع بعد "أوسلو" وتضمن بناء الأبراج التجارية الشاهقة مواكبة للتطور، و"الجميل" في عام 1952 وتحولت، لحسن الحظ، إلى مسرح و"سينماتيك القصبة" في عام 2000. وفي السنوات الأخيرة، تم إنشاء "سينما البرج" في أحد مرافق برج فلسطين التجاري، على طريقة دور السينما الأميركية.

 

المفرق بين بوظة ركب وبقالة جورج في شارع ركب برام الله

 

أيام اللولو
تساءلت دائماً عن سبب عشق جدي، وأغلب المحيطين بنا الأفلام، وترددهم الدائم على صالات العروض، ويظهر تاريخياً أن الفلسطينيين اهتموا بالسينما والحياة الثقافية كثيراً قبل نكبة 1948، بحسب ما نشرت الصحف الفلسطينية في ذلك الوقت، لا سيما "فلسطين" و"الدفاع". كان الإقبال على السينما كبيراً، وتأثر الناس بالأجواء العامة، فكانت لهم طقوسهم الخاصة لحضور الأفلام على المدرج، ومن الشرفة المخصصة للعائلات، بكامل أناقتهم: ربّ الأسرة وزوجته وأبناؤهم. 

كان الجميع ينتظر الذهاب إلى السينما كجزء من التغيير ومن التطور والانفتاح الاجتماعي، للاطلاع على الثقافات والحيوات الأخرى على وجه الكوكب، يشتري بعضهم الفستق من العربة التي تقف على ناصية الشارع أو بعض الحلوى من البوفيه، وتحولت إلى ظاهرة محببة جعلت الشبان والفتيات يدّخرون بعضاً من مصروفهم لحضور فيلم يختارونه بأنفسهم ويعطيهم شعورا بالاستقلالية.

كان جدي يقول إنه حتى النكبة كان يرتاد سينما "ريكس" في القدس بشكل دائم. بعد اللجوء أراد،  كما كثر، أن يستعيد إحدى هواياته التي أحبها كثيراً، فكان يرتاد السينما مرة واحدة في الإسبوع على الأقل، ليستمتع بمساحته الخاصة المتاحة، حيث ينفصل لبعض الوقت عن واقعه الذي لم يختره، وكانت السينما ملجأه الموقت من اللجوء الذي فرض عليه ليعيش بعضاً من رفاهية حرية القرار والاختيار.

 

العمارة اللي حلت محل سينما دنيا

 

ولأنها سبقت انتشار التلفزيون والقنوات المتخصصة ببث الأفلام، كانت السينما متعة المتع، ينتظرها الجميع بشغف كبير، فهي فرصة لارتداء الملابس الأنيقة والظهور بأجمل شكل، والابتعاد قليلاً عن الروتين اليومي وصخب الحياة. اعتبرتها الطبقة الوسطى العاملة متنفسها والمساحة المتاحة للتسلية، إضافة إلى المسارح والمكتبات والمقاهي والمطاعم والفنادق والنوادي المنتشرة. حتى بعد النزوح واللجوء، استمرت تلك العلاقة سنوات رافقتها أجيال مختلفة، قبل أن تصاب بالتشنج الحضاري مع استحداث الهواتف الذكية والتكنولوجيا المتطورة والذكاء الاصطناعي.

الأكثر قراءة

سياسة 11/23/2024 7:37:00 AM
أعلن برنامج "مكافآت من أجل العدالة" عن مكافأة تصل إلى 7 ملايين دولار أميركي مقابل الإدلاء بمعلومات عن طلال حمية المعروف أيضاً باسم عصمت ميزاراني
سياسة 11/23/2024 9:48:00 AM
إسرائيل هاجمت فجر اليوم في بيروت مبنى كان يتواجد فيه رئيس قسم العمليات في "حزب الله"، محمد حيدر

اقرأ في النهار Premium