لمناسبة بلوغ فيروز التسعين (20 تشرين الثاني 1934 بحسب سجلات القيد)، تنشر "النهار" هذه الأضواء على مسيرتها، بتوقيع الأستاذ أكرم الريّس، المتخصّص في فنّ زاد الخير وغربة و"ناطورة المفاتيح"، وبرسوم للفنان منصور الهبر، على طريقة آندي وارهول، تحيّةً متواضعة إلى شاعرة الحنجرة وسفيرة لبنان الروحيّ والفنّيّ والثقافيّ والإنسانيّ إلى العالم، داعيةً لها بطول العمر ودوام العافية، مكلّلةً بالصوت الفائق الأعجوبة، أرزةً يجتمع تحتها العشّاق والموهوبون والحالمون والموجوعون والمقهورون والأحرار، أجيالًا تلو أجيال، ويستظلّها التائقون إلى كروم الخير والحبّ والجمال والحرّيّة. وإذا كان التفسير، العلميّ والأدبيّ على السواء، يعجز أحيانًا عن فهم الكيمياء التي يتشكّل منها نسيج الصوت الفيروزيّ، فليس أمام المتلقي سوى أن يطأطئ بحواسه والقلب والعقل والجوارح لحنجرة هذه المرأة الخالدة، معلناً لها باسم الشعر وبلدها الجريح والأمم قاطبةً: رح نضلّ نحبّك ت تخلص الدني.
أكرم الريس
"ذات مرة تناهى إليَّ من راديو السيارة صوت يغني "راجعة"، فسألتُ: من صاحبة الصوت؟ أجابوني: هذه فيروز. قلت والموسيقى لمن؟ أخبروني انها للاخوين رحباني. صوت فيروز عرفته قبل ما عرفتها. زرتها في بيتها المتواضع في حي البطريركية قرب منزل الشاعر أمين نخلة مع عاصي". روى تلك القصة الشاعر سعيد عقل عن اول لقاءاته مع فن فيروز، تلك الصبية اليافعة الخجول التي كُتب لها ان تحمل "هموم كتار"، وان تمشي دروبا طويلة وشاقة، مكللة بالغار، صوب عالم فني مشع في أبعاده الفنية والانسانية والمهنية والاخلاقية. بعد سنوات قليلة، هب الشاعر نفسه وأطلق على فيروز لقب "سفيرتنا الى النجوم" (1956)، وكتب عنها في تلك المرحلة المبكرة من مسيرتها الفنية: "غنت الارض، والوجوه الانسانية، والثورة على الظلم. وأعطت املاً للمشرد، وطهارة للحسناء، وغداً أجمل للبائسين. لا تبعد فيروز عن الشعب: من أغانيه البسيطة، من سهراته وساعات حبه، من رقصاته الحارة الحلوة تأخذ مادة. ولكنها تتلاعب بكل ذلك لتدفعه الى القلوب التي استيقظت على البهاء، بطولة، ونشوة فرح، ولذة بإبداع الجديد. على صوتها تبنى اليوم أمة".
استمر الشاعر في سبر أغوار الصوت فقال انه "يخلع على جُرحة القلب مسحة من ابتهال" (1974) وهو "ذهب الشعر وتلويحة المجد، وهذا أكثر، هذا حبي" (1981).
في "تسعين" فيروز"، تنطلق مقالتنا من هذه الكلمات لترسم مسار "السفيرة"، في اطار الديبلوماسية الثقافية بشكل خاص، مع بداية "الليالي اللبنانية" في "مهرجانات بعلبك الدولية"، ثمّ لتلقي الضوء باختصار على توسع هذا الدور، في اعمال فيروز والاخوين رحباني، وترسخه لاحقا خلال الحرب اللبنانية وصولا الى آخر أعمالها. من شأن العودة الى البدايات أن تقدم مساحة للتأمل في هذه المسيرة المتفردة وفي هذا الخراب الذي يفتك ببلادنا.
"الليالي اللبنانية الأولى" عام 1957
بادر رئيس الجمهورية اللبنانية كميل شمعون (1900-1987) إلى مأسسة احتفالات بعلبك عام 1956 لتقديم فعاليات سنوية منظمة استناداً إلى نجاح العروض المتفرقة السابقة في الأعوام 1922 و1944 و1955. وقد تحقق ذلك من خلال إنشاء جمعية أهلية غير حكومية مستقلة بإسم مهرجانات بعلبك الدولية، رئيسها الفخري هو رئيس الجمهورية اللبنانية. بدأت المناقشات حول برمجة الفن المحلي منذ عام 1955، وأقرّت السيدة الأولى زلفى شمعون (1910-1971) في العام التالي تأسيس "لجنة الفنون الشعبية" وتعييّن كل من حبيب أبو شهلا ثم خليل الهبري رئيسًا لها. وفي اطار تحضيرات عروض الفنون الشعبية في العام 1957، تم تكليف لجنتين فرعيتين، الاولى بعضوية نجيب حنكش وسلمى سلام، وحسانة الداعوق، وسيدة من آل صيداوي، وبدعم استشاري عام من المؤرخ يوسف إبراهيم يزبك والأمير موريس شهاب مدير مديرية الآثار وميشال توما مدير الهيئة الوطنية للسياحة. وكان من بين مهامها تسمية الفنانين اللبنانيين المؤهلين وتكليفهم. أما اللجنة الموازية من السيدات برئاسة زلفى شمعون وفي اشرافها المباشر، فكانت جهودها منصبة على الأزياء والألبسة التقليدية لكل مشهد، بمساعدة الدكتور فؤاد الأشقر. حضر الرئيس شمعون إحدى البروفات في قصر الأونيسكو في بيروت في 28 نيسان 1957 وأبدى استعداده لدعم ليالي الفن الشعبي ولجنتيها بكل الوسائل المتاحة من أجل إقامة نهضة ثقافية وفنية جديدة تمثل التقاليد اللبنانية. وتم توسيع الفكرة الأولية عن موضوع الزفاف إلى سيناريو من فصلين، ليبدأ باللقاء الأول للحبيبين ويتطور إلى خطوبتهما ومن ثم يتوج بموكب الزواج. وديعة ومروان جرار استقطبا 120 راقصاً وراقصة ينتمون إلى "العائلات المحترمة" من المدارس والجامعات العريقة ليؤسسوا أول فرقة رقص شعبي للمهرجان. أما التشكيلة النهائية للفنانين المساهمين في "الليالي اللبنانية" الأولى فضمت فيروز مغنية منفردة، الأخوين رحباني (موسيقى وسيناريو)، زكي ناصيف (موسيقى وكلمات)، توفيق الباشا (موسيقى وقيادة وتحضيرات الآلات الموسيقية والأوركسترا)، فيلمون وهبي (موسيقى وتمثيل)، وديع ومروان جرار (تصميم وتدريب الرقص)، أسعد سعيد (رقص منفرد)، بوغوص جيلاليان (بروفات موسيقية)، صبري الشريف (مخرج) وهو ذو خبرة سابقة بالفولكلور، نزار ميقاتي (مساعد مخرج)، محمد شامل (مدير المسرح)، جوزيف ربّاط (سينوغرافيا)، محيي الدين سلام (انتاج) ومجموعة من الفنانين من الشركة اللبنانية للتسجيلات الفنية والتقنيين في الاضاءة وهندسة الصوت والاعمال اللوجستية.
حضر الرئيس شمعون وقرينته السيدة زلفى الاحتفالية المنتظرة التي قدمت عبر ليلتين في 31 آب و1 أيلول 1957 وافتتحتها فيروز بأنشودة "لبنان يا أخضر حلو" وهي "موشحة بالازرق مغلفة بالنور"، في جو سحري كأنها طائر في السماء من بين اعمدة معبد جوبيتر. ونوّه كتاب المهرجان بأنها "نوال سماوي للفولكلور اللبناني" و"عروس الانشاد الشعبي". توالت من بعدها مشاهد العين والحصاد والقطاف والمعاصر، يتخللها لقاء العروس والعريس ومن ثم طلب يد العروس، لينتهي الفصل الاول بأغاني احتفال الخطبة ورقصاته. يبدأ الفصل الثاني بوصول وفود القرى واستقبالهم مع رقصات السيف والترس حيث ألقى القوالون قصائدهم ترحيباً بهم الى ان تلصق العروس الخميرة على باب بيت العريس وتتوالى مشاهد العرس مع دبكة المحارم ورقصات الاباريق واجران البن والدبكة البعلبكية على المزمار، وتعلو الزغاريد التي يزينها صوت فيروز مردداً الاغاني الشعبية التقليدية حاملاً افراح الناس وآمالهم بأيام سعيدة.
كانت فيروز ذلك العام، أي 1957، في الثالثة والعشرين من عمرها، وفي السنة السابعة لاحترافها الفني. تميزت تلك الفترة بأنها مرحلة سمعيّة ارتكزت على العمل الاذاعي المكثف مع فرق موسيقية متعددة وورشة فنية قوامها الوان غنائية شرقية وغربية متعددة شكلت اساساً متيناً لمنهج تتجاور فيه ثقافات موسيقية متنوعة ويبني جسوراً بين الشرق والغرب. وقد توزع العمل بين الاذاعتين اللبنانية والسورية، تبعتهما "اذاعة الشرق الادنى"، كما تخللته اقامة فنية مطولة في اذاعة "صوت العرب" في القاهرة. وكانت لفيروز اطلالات محدودة جداً خارج هذا الاطار في حفلات او مناسبات اقيمت في بيروت وعاليه وبعض المناطق اللبنانية ودمشق، واعتذرت عن عدم قبول عروض للمشاركة في السينما الغنائية في القاهرة لتتفرغ الى الغناء. وأشار عاصي في العام 1956 إلى أن انسب الادوار لفيروز هي في القصص الخيالية والاسطورية، مما يشكل مؤشراً للشخصيات التي قدمتها خاصة في مهرجانات بعلبك والتي من خلالها دخلت عالم المسرح الغنائي والتلفزيون والسينما من أبوابها الواسعة، وذلك بعد مطالبات حثيثة لسنوات خلت في بيروت ودمشق.
نشوة الانتصار
كانت ردود الفعل على "الليالي" الشعبية الاولى ايجابية ومبهجة بشكل عام، وهللت لاطلالة فيروز باعتبارها محطة جديدة في الغناء اللبناني. ذكرت صحيفة "ديلي ستار" أن "الأغاني والرقص من أنحاء البلاد المتعددة جلبت فخرًا وطنيًا جديدًا تلفقه الجمهور بسهولة". مع الاشارة الى انه لا يزال هناك الكثير من العمل الشاق والتحسين في مختلف الجوانب يجب القيام به. وقال رشدي معلوف إنه لا يزال هناك حاجة إلى بذل جهد أكثر شمولاً نحو جمع وتوثيق شامل لمختلف جوانب الفولكلور في لبنان. واشتركت صحف أخرى من منطلقات سياسية متباينة في التعبير عن انطباعات الشعور بالانتصار. وأشارت صحيفة "العمل" التابعة لحزب الكتائب إلى أن "الجمهور اللبناني خرج من معبد جوبيتر بعد كل عرض وكأنه في موكب كنسي مغمور بالخشوع"، مستعيداً بذلك وظيفة قدسية المكان التاريخي. وهذا ما أكدته ايضًا صحيفة "الحياة" ذات التوجه القومي العربي فوصفت فيروز بأنها "وديعة التلال الخضراء"، ونوّه رئيس تحريرها كامل مروة بأن "كل مواطن حضر المهرجان يفتخر بهذه العبقرية الفنية التي كانت مخبوءة لأجيال وتفجرت في المهرجان كالنبع الذي لا يتوقف". وذهب إلى أبعد من ذلك معتبرا العروض نقطة انطلاق جديدة نحو نهضة فولكلورية قوية ومستمرة تحتاج إلى دعم حكومي صحيح من خلال إدخال الفولكلور في المناهج الدراسية و"إنشاء معهد للموسيقى والرقص الفولكلوري وفرقة دائمة قد يكون ما تقدمه أكثر حيوية للبنان مقارنة بما تقدمه المؤسسات الرسمية الأخرى حالياً". ثم دعا مروة الفنانين أنفسهم الى تولي مسؤولية هذه المهمة اذا لم تتخذ الحكومة الإجراءات المناسبة.
نوهت المقالات النقدية والمراجعات الصحافية التي تناولت بدايات "الليالي اللبنانية" بالبُعد العالمي، ذلك أن العرض الفولكلوري يمكن أن يسافر إلى أي بلد ويقدّم عرضاً ممتازاً و"يبشر العالم بأننا وجدنا أرواحنا". كما أنه سيكون سفيراً رائعاً لمعرض بروكسيل العالمي 1958 ودائماً للجاليات اللبنانية في المهجر، ونقطة انطلاق لتنظيم مؤتمر دولي سنوي موازٍ لمهرجان الفنون الشعبية. وطالب وزير الإعلام ريمون إده بتخصيص ميزانية وطنية للفرقة لتتمكن من القيام بجولات خارج لبنان. ولم يمض وقت طويل حتى تحققت بعض تلك التطلعات. فتمّ تنظيم جولتين مظفّرتين وغير مسبوقتين إلى البرازيل والأرجنتين في خريف 1961 وإلى لندن وبرمنغهام في ربيع 1962 بقيادة سلوى السعيد. في كلتا الجولتين قدمت فيروز و"الفرقة الشعبية اللبنانية" مع الأخوين رحباني والمخرج صبري الشريف مختارات من ذخيرة "الليالي اللبنانية الأربع" التي أقيمت حتى العام 1961. وتم الاعتراف بتلك الحفلات كمساهمة في ترسيخ روابط لبنان الذي نال استقلاله قبل عقد ونيف، وتعزيز الثقة في علاقاته الثقافية الدولية والاقليمية، وجمعيها انجازات نادرة سبقت زمن العولمة والانترنت. كما أضاءت تلك الجهود على تفوق الفنون الشعبية بفعاليتها حتى على أجهزة الدولة المختصة في تعزيز "وشائج الاخوة بين ابناء البلاد وغرس بذور القربى في الذوق المشترك والاحساس الواحد في نفوس الجيل الطالع"، مثلما كتب كامل مروة، الى جانب حمل شهرة لبنان الفنية والثقافية ومعها الاغنية الفيروزية والاغنية اللبنانية المعاصرة خارج حدود لبنان الى العالم. على مستوى آخر، شكلت "الليالي اللبنانية" الوثبة الفنية المنتظرة في لبنان منذ ان افتتح الانتداب الفرنسي الاذاعة اللبنانية في العام 1938 وقدمت الدليل على الريادة الفنية اللبنانية المستحدثة في العالم العربي.
حاملة الحكايا وحافظتهم
استند العمل الافتتاحي في "الليالي اللبنانية" الشعبية لعام 1961 إلى أسطورة وهمية لآلهة بعلبك بعنوان "رحيل الآلهة" ضمن مغناة "البعلبكية". الآلهة، وهم على وشك مغادرة المعبد بعدما تم تدميره، طلبوا أن ترافقهم فتاة محلية مسحورة. لعبت فيروز دور تلك الفتاة التي اصرت على البقاء بين أطلال بعلبك لأن لديها واجباً عليها القيام به. مسعاها هو رحلة إلى "قلوب الناس وبيوت الناس" في لبنان والمهجر لتغرس "شجرة الى جانب كل أغنية" وتروي للعالم وعلى كل تلة وبيت "قصة إلهية" كما حكايات الحب والعز. إنها رحلة إلى أرض الأجداد وإعادة اكتشاف الجذور العميقة للروح الجماعية ونسيج الهوية.
ما هي أرض فيروز؟ لها جغرافيا جيوسياسية وجغرافيا غير محدودة في آن واحد. تجسد الأولى سمات مادية وبيئية محددة، فيها الوعر والصخر كما فيها الزهر، في حين أن الثانية هي في تخوم الينابيع الاولى للإنسانية وهي "أعجوبة" تتحقق عبر الصوت والغناء الذي هو "سر الوجود"، لتبحر منه نحو "الاكثر" والمدى الاوسع. تبني فيروز جسراً بين الجيوسياسي واللامحدود، وكذلك بين الواقع والخيال، "لتغلف جمهورها بشعور الانتماء والعاطفة الجماعية الحاضنة". هي جسر للقمر وللحكايا فوق تاريخ النزاعات في لبنان، وعلى أبواب الديبلوماسية الثقافية مع البلدان العربية كما مع دول العالم. صوتها جعل هذه الحكايا إكسيرًا وحمّل تلك الحركية الديبلوماسية زخماً مفعماً بالطاقة والجمال لم تعهده في مسالكها الاعتيادية.
تماهت فيروز مع المضمون الفني الذي قدمته في اغانيها ومسرحياتها فأصبح منهجاً لها في المواقف والحياة والفن. فهي جارة لنا ورفيقة درب يومياتنا في تفاصيلها، وهي سفيرة متوجة تحمل روح الشعب، ويتواءم هذان البعدان بسلالة وبساطة.
ازدهرت حفلات فيروز في الدول العربية، وأينعت مسرحياتها في البيكاديللي بتوجهاتها الواقعية الاجتماعية، وازدهت مواعيدها الدمشقية السنوية في اواخر كل صيف، بالتوازي مع اعمالها البعلبكية. أصبحت مهمازاً لاستعادة القدس والاضاءة على القضايا المهمشة، الى جانب الاحتفاء بلبنان السلام ولقاء المدائن في المشرق والمغرب العربيين التي كانت بواكيرها في دمشق ومصر خلال المرحلة الاذاعية السابقة. انشدت القضية الفلسطينية ورفعت صوت الضمير، فصارت "سفيرة القدس" ولاحقاً "سفيرة العرب"، بصوتها الذي يدعو الى الحرية والعدالة والسلام والى إنسانية لا تزال متعلقة بروحها، كما كتب كل من الشاعر المصري فؤاد بدوي (1966) والروائي المغربي الطاهر بن جلون (1988). تروي اغانيها وإطلالاتها "قصتنا الكبيرة"، فهي حكايا "الحصاد والسهر والقمح والرياح والرماح، فساعد يستنبت الثمر وساعد يشرع السلاح"، وهي قصص "الابطال والزيتون وقرية تضحك للسماء، تحرس خط الشوك والفداء".
أضاف الافق السياسي المتغير بعد هزيمة 1967 طبقات اضافية من المعنى، وعبّرت أدوار فيروز عن إرادة راسخة في البقاء والمتمسك بالأرض، فتحول دور الفولكلور من مرجع وصفي يسمو نحو العزة والفرح الى مدماك لفن ملتزم ومقاوم، وصار الغناء سفراً لكشف الظلم. هذا التوجه لم يتطابق بكامله حينذاك مع توقعات بعض اعضاء لجنة الفن الشعبي في مهرجان بعلبك ومنابر اعلامية عدة مالت نحو اعمال تكون اقل سوداوية، بينما اعتبره بعض آخر من المنابر الاعلامية "أضخم وأروع مجهود عرفته بعلبك منذ العام 1959" و"فاتحة عهد جديد سوف تدفع بالنهضة الفنية قُدمـًا".
في مسرحية "جبال الصوان" (1969)، تقدم صوت فيروز نحو مدى حسي ووجداني جديد يحرك شعبًا مغلوبًا يحكمه اليأس ويدفعه الى الاستقلال والخلاص بقوة الايمان والتضامن والنضال. أما في مسرحية "ناطورة المفاتيح" (1972) فتحول الصراع داخليا غير عنفي مع حكم مستبد، وفيها تكررت فكرة الرحيل حيث يهجرالشعب ممالك الظلم، بعدما سبقته الى ذلك الالهة في "البعلبكية"، فتبقى فيروز المواطنة الوحيدة في مملكة سيرا، الى أن يدعوها "نسيم غريب" إلى رحلة أخرى، فتصبح حارسة المنفيين والبيوت المهجورة ورمزًا للذاكرة والأرض. إنها مقصد أكبر للوفاء بالنذور؛ لتتمرد؛ لتصلي؛ لتتحرر؛ لتوحِّد الناس في سلام. ولا تلبث ان تصبح "العروس الكبرى" التي تزرع فرح المستقبل في حقول الأزمنة المقبلة، تلك الازمنة التي ستشهد على حروب وفجائع وغربات لا قعر لها. تكتسب الأغاني مهمة اضافية الى جانب إحياء أطلال بعلبك بما ترمز اليه في الاصلاح والوئام وإعادة بناء بلادنا لتنثر حكاياها في الاغتراب ولجمهور رسمي وشعبي في الخارج.
لكن اندلاع الحرب اللبنانية وعنف الانقسام أعاق حلم بعلبك وجهود بناء الوطن، فحملت فيروز هذا الحلم في صوتها وراحت تنشد انكساره وقيامته، في اعمالها كما في جولاتها خارج لبنان، لتبتعد عن الاطلالات الفنية وتتشح بالصمت في بلدها، باستثناء احياء ترانيم "الجمعة العظيمة" كموقفٍ رمزي ضد عنف الحرب. تقاطع هذا الموقف مع بقاء كل من البنت البعلبكية وزاد الخير في العروض البعلبكية في ديارهما رغم هجرات الاخرين، وتقارب مجدداً واقع فيروز وحياتها مع فنها. فقدّمت مغناتين في الامم المتحدة في العام 1981 في الذكرى الخمسين لرحيل جبران خليل جبران، وتولى توليف النصين الشاعر جوزيف حرب من أعمال متعددة. الاولى "يا بني امي" تلحين زكي ناصيف، في حركتها الاولى تنشد فيروز كأنها في موكب جنائزي مهيب: "في ظلام الليل اناديكم هل تسمعون؟ مات أهلي وغمرت تلال بلادي الدموع والدماء"، وتُحذر من الامة التي تقسمت وكثرت فيها طوائفها وقل فيها الدين، لكنها لا تلبث في القسم الاخير ان تستنهض شعبها ولبنانها نحو زمن آخر يعم فيه السلام. اما الثانية فتلحين الرحباني الابن بعنوان "الارض لكم" حيث تدعو الى التلاقي الانساني، وهو بعدٌ سيتبلور في اعمالها مع زياد. واستعادت مقاطع من هذه المغناة في جينف حيث مثلت لبنان والعالم العربي على ابواب الالفية الثالثة في الذكرى الخمسين لإعلان الصليب الاحمر الدولي قواعد السلوك في الحروب (1999). وكان جبران نشر قصيدة "مات أهلي" النثرية للمرة الاولى في مجلة "الفنون" في تشرين الاول 1916 خلال الحرب العالمية الاولى. أما "في ظلام الليل" فقال انها "كُتبت أيام المجاعة"، وكتب خطبة الويلات التسع قبل الحرب العالمية الاولى بسنة أو إثنتين. نقلت الصحافة العربية والعالمية اصداء هذه الحفلات واخريات تبعتها في اوروبا كما وثقتها إلهام تابت في "ملحق النهار"، "كأن صوتها سلك كهربائي، عندما يلمسهم يتجاوبون يهتزون... تتابع هي عبر صوتها ويتابعون إلى أن يصل الجميع إلى النشوة" (النهار)، وهو "يستقرّ في النفوس ويحمل في نبراته آلام لبنان ومعاناته" (إيكونومست) بعدما "هدهد أكثر من جيل، أكثر من شعب، أكثر من قارة" (بارول إي موزيك). تخطت هذه المراجعات أثر الصوت وصولا الى اختيار فيروز نفسها من بين 100 امرأة يحرّكن العالم في العام 1995 (الإكسبرس الفرنسيّة) واعتبارها "واحدة من بين السيدات اللواتي يعدن باختراع عالم المستقبل" في العام 2010 (مدام فيغارو).
رغم ابتعاد فيروز عن الأضواء والإعلام والمجال العام، زارها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في بيتها بالتزامن مع انفجار مرفأ بيروت 2020 وذكرى مئوية لبنان الكبير وقلدها وسام جوقة الشرف لأنها "رمز وطني نادر يلتقي على اسمه اللبنانيون". وهو ثالث وسام فرنسي تناله وارفع تكريم رسمي في فرنسا يضاف الى رصيد أوسمة وتكريمات عربية وغربية عديدة نالتها خلال مسيرتها.
اشراقات سفيرة
تشهد "روعة الآثار" الباقية في بعلبك منذ الفترة الرومانية لدورها كقطب مقدس في العالم القديم، كما ترمز في زمننا الى ارث فريد للانسانية. وتبقى لها "رواية تروى" مثلما تُهلل قصيدة سعيد عقل، وقصص تستعيد تألقها واندثارها. فيها تتراكم خرائب الاجيال، مثلما حاضرنا مسكون بأطلال نهضة وحداثة سعى اليهما أجدادنا وآباؤنا لتحقيق الهوية والتقدم. شفاء مؤقت في حاضر مستغرق في هوة تتسع مع الفساد والاستبداد والتخلف والفقر. تتكرر محن لبنان وتتعالى أنقاضه وتستعاد ذاكرة الحروب مع فشل مشاريع الاستقلال بعد الانتداب وظهور كيانات وتقنيات استعمارية بمسميات متجددة، وتفشي دمار وهجرات وابادات وتلاش بيئي واجتماعي في يومنا هذا. اذا كان الشاعر سعيد عقل هو أيضاً مَن رسم ملامح رؤية "السفيرة" قبل انطلاقة "الليالي اللبنانية" في بعلبك، فلا شك ان لمهرجانات بعلبك دورا في اطلاق تنفيذها خاصة في الليالي الاولى. لا تزال انجازات زلفى شمعون وزميلاتها وزملائها في السنوات التكوينية للجنة الفنون الشعبية كما للمهرجان نفسه، تُشكل نموذجًا ملهمًا للعمل الفني الريادي، وقد انتهت صيغة "الليالي اللبنانية" مع توقف المهرجان في بداية الحرب الاهلية. لقد سعوا في لحظات مشرقة من العمل الجماعي من تاريخ لبنان المعاصر إلى اكتشاف آفاق جديدة وتحقيق معايير ذات طابع دولي انطلاقاً من البحث عن جذور الانتماء المحلي الرحب وتعزيز التماسك الاجتماعي. وساهموا في نسج خيوط قصة صحوة بين الناس "بعد طول النوى"، كما تقول قصيدة لخليل مطران، وحملوا رسالة من بلد صغير يقع في منطقة مثقلة بالصراعات الاقليمية والدولية إلى العالم عبر الفنون الشعبية. توسع ونضج من ذلك الحين دور "السفيرة" في ترحالها العربي وفي أميركا ولندن وخاصة في باريس "زهرة الحرية" عبر اعمالها وحفلاتها مع الاخوين رحباني، كما ترسخ خلال الحرب الاهلية وبعد انتهائها عبر حضور صاغت فيروز ابعاده بتعب الايام. هو حضور طاغٍ وخشبة خلاص خلال الحرب تطهرنا من آثامها، مثلما هو ذاكرة جماعية متوجهة تتخطى فيها الاعمال ظروف انتاجها، وواحة انسانية ولاّدة تتجدد في حاضرنا رغم جراحنا وأطلال خرائبنا في عالم مفتوح على الاحتمالات والنزاعات كافة.
حملت فيروز بيروت والقدس ومكة ودمشق وبغداد وعمان وتونس والمدائن والشعوب العربية في صوتها، فالاغاني تختزن الامكنة واطيافها كما تقول، ولا يغيب عنها ان تتدارك بأن صوتها كذلك يحملها ولا تحمله، وان اصدق البوح وأعمقه واكثره شبهاً لها يقيم في اغنياتها ومواقفها وليس في الكلام الذي لا يتسع احيانا لقصصنا كما تقول أغنيتها. هذه هي فيروز. يعبُر صوتها تقلبات الحدود الجغرافية وتتسع رقعته فوق جسور العلاقات الديبلوماسية مثلما يتغلغل في قلوبنا ومسام ذاكراتنا. غنت بعلبك فتحولت خرائبها عبر صوتها الى روابٍ وسهول خضراء وفجر فردوس آتٍ وطفولة لا تنضب. انها الناجية من جدليات خراب الخيال في بعلبك وانقاض الواقع في بلادنا لترسم معاني الانتماء والتخطي. السفيرة والرمز والأيقونة، أو جارة القمر، والعندليب المسحور، وملهمة الشعراء، وتعويذتنا وعصفورة قصصنا و"الانتقام الجميل" من كذبة الحياة: فيروز منحبك حتى تخلص القصص والايام.