جورج صليبي
في العالم هناك أصوات قوية جبّارة، وهناك أصوات رقيقة حسّاسة، وهناك أصوات تلامس القلب، وأخرى تحاكي العقل.. ولكل صوت مميزاته، ومكانته، وتصنيفه.
وحده صوتها يقترب من حدود الكمال، ومن درجة اكتمال العناصر والأشياء، ومن اتحاد القوة والضعف، وامتزاج الوعي والإحساس، والقدرة الفائقة على التعبير.
فيروز.. هي الصوت الذي يقيم في أوراق الذاكرة، ويسافر بعيداً على حدود الخيال، ويصعد إلى أعالي فضاءات الروح، وهو الصوت الأكثر حضوراً في تاريخنا الحضاري والوطني والعاطفي.
كُتِبَ الكثير عنها وقيل الكثير فيها، وعلى مدى ما يقارب خمسةً وسبعين عاماً من عمرها الفني، منذ أول دخول لها إلى الإذاعة عام 1950، مروراً بكل قممها ونجاحاتها، وصولاً إلى مرحلة هدوئها وسكينة أيامها.
هي التي وُلدت وترعرعت في زقاق البلاط، وفي طفولتها عرفت أنها تملك صوتاً جميلاً في مدرسة حوض الولاية، وصوتها هذا كان مسرحه الأول "مطبخ البيت" في زقاق البلاط، حيث كانت نهاد وديع حداد أثناء مساعدة والدتها ليزا البستاني في "جلي" الأواني تطلق لصوتها العنان وتغني أغنيات ذلك الزمان، من أسمهان إلى فريد الأطرش وليلى مراد.
وكان شبّاك المطبخ يحمل صوت الصبية إلى الطبقة العلوية للمنزل، حيث الجار الذي يعمل في الليل وينام في النهار، وكان يقلقه الصوت ويقطع نومه، فيصحو ويشتم ويصرخ، وربما كان هو الإنسان الوحيد الذي صرخ وشتم يوماً صوت الصبية التي أصبحت فيما بعد درّة تاج الغناء.
في مسيرتها الطويلة من غرفة البيت القديم في زقاق البلاط إلى عرش الغناء، الكثير من الضوء والمجد وأيضاً الكثير من الحزن والعتم، وحملت نهاد في جسدها الصغير فيروز العظيمة بكل ما فيها من مجد وألق ومن ألم وقلق، وأضحت رمزاً وأيقونة وهالة لا تتكرّر.
اليوم، وفي عزّ حرب نعيشها ومصير مجهول نترقّبه، نستذكر يا فيروز كم من مرة كنتِ القضية والملجأ وكنتِ صوت الناس والضمائر.
وإذا أردنا العودة إلى حروبنا الكبيرة في الوطن الصغير، نجدكِ ومنذ خمسين عاماً وأنتِ تعانقين الوطن وتضمّينه إلى قلب حنجرتك، تُدفئينه حين يبرد، تداوين جراحه حين يُصاب، تلمّين أشلاءه حين يتقطّع، وتعيدين جمعه من جديد.
وتمرّ الأعوام وصوتك يسافر في الضمائر والقلوب ويسكن في الوجدان، وحين يريدون أن يذكّروا بأمجاد الوطن يستعينون بصوتكِ، وحين يدقّ ناقوس الخطر يستلهمون صوتكِ، وحين يريدون تقديم لبنان بأجمل ما فيه يستحضرون صوتكِ.
وتمضي الأيام وما زلنا يا فيروز نفتّش عن وطن وعن هوية، وما وجدنا إلا صوتكِ، فيه يكتشف الناس أوطانهم الضائعة ويتلاقون على الخير والحب والسلام.
في عيدكِ اليوم، لا يسعني إلا أن أستحضر من لقاءاتنا النادرة وأحاديثنا المتعددة، صورة واحدة هي صورة الصبية التي لا تكبر، بابتسامتها الخجولة ونظراتها اللمّاحة وكلماتها الثاقبة.
يا فيروز.. كل عام وأنتِ الرمز، كل عام وأنتِ الصامدة حتى نبقى.