عقل العويط، هنري زغيب، جورج صليبي، أكرم الريّس، محمود فقيه
لمناسبة بلوغ فيروز التسعين (20 تشرين الثاني 1934 بحسب سجلات القيد)، تنشر "النهار" هذه الأضواء على مسيرتها، بتوقيع الأستاذ أكرم الريّس، المتخصّص في فنّ زاد الخير وغربة و"ناطورة المفاتيح"، وبرسوم للفنان منصور الهبر، على طريقة آندي وارهول، تحيّةً متواضعة إلى شاعرة الحنجرة وسفيرة لبنان الروحيّ والفنّيّ والثقافيّ والإنسانيّ إلى العالم، داعيةً لها بطول العمر ودوام العافية، مكلّلةً بالصوت الفائق الأعجوبة، أرزةً يجتمع تحتها العشّاق والموهوبون والحالمون والموجوعون والمقهورون والأحرار، أجيالًا تلو أجيال، ويستظلّها التائقون إلى كروم الخير والحبّ والجمال والحرّيّة. وإذا كان التفسير، العلميّ والأدبيّ على السواء، يعجز أحيانًا عن فهم الكيمياء التي يتشكّل منها نسيج الصوت الفيروزيّ، فليس أمام المتلقي سوى أن يطأطئ بحواسه والقلب والعقل والجوارح لحنجرة هذه المرأة الخالدة، معلناً لها باسم الشعر وبلدها الجريح والأمم قاطبةً: رح نضلّ نحبّك ت تخلص الدني.
تسعون فيروز (20 تشرين الثاني 1934-)!
باطلٌ كلّ وصفٍ. لكنّي أصف.
تسعونكَ، أيّها الصوت، كالله يحلّ فينا تسعين مرّةً، ولا نتّعظ.
كوضوحٍ ينطلي علينا فنعجز عن إيضاحه.
كالغموض. كالسرّ. كالمعجزة. كالمستحيل. كالواقع المستحيل.
كلّما حاول أحدُنا أنْ يصف، وقع في الفجوة، في قلّة الحيلة.
لا فائدة من الوصف. لا ينفع.
يخطئُ الكثيرون حين يتناقلون السائد أَو المكرَّر فيحصرون فيروز بمجرد "مطربة" أَو "مغنِّية" أَو "فنانة" أَو "نجمة" أَو "أَيقونة" أَو "سفيرتنا إِلى النجوم"، فيما جميع هذه التسميات تبقى قاصرةً عن هيبة فيروز وأَثرها في الناس، ونشْرها لبنانَ بصوتها وأَدائها بالمحكية اللبنانية والفُصحى العربية في أَكبر المدن والعواصم، وعلى أَشهر المسارح في العالم.يميِّز فيروز أَنها ذاتُ مواهبَ خمس:1. الصوت المفرد بخامته وأَوتاره الفريدة: حين جلسْتُ ساعاتٍ طويلةً إِلى منصور الرحباني إِبّان وضْع كتابي "في رحاب الأَخوين رحباني"، ردَّد لي غير مرة بأَن صوت فيروز "نادر جدًّا"، وكرَّر لي: "منذ جاءَت فيروز إِلى حياتنا، عاصي وأَنا، جاءَت متوَّجَة بالمجد". وإِذ استفسرتُ أَضاف أَن صوتها مـرَّ في أَصعب التجارب والطبقات العالية والخفيضة والتموُّجات والعُرَب الصوتية، ولَمع فيها جميعها لِما يتمتّع به صوتها من جمال أَخَّاذ".
ستيقظ الصباح مع صوت فيروز، وتنام كواكب السحر عند جنح الليل على أنغام أغانيها. يدفعك إحساسك إلى أن تتعصب لصوتها. لأغاني فيروز أبعاد في المعاني، ربما توازي جمالية اللحن ولا تتفوق على الصوت الساحر الذي يبهرك كي تردد دائماً ما تسمع من دون أن تكترث لطيات الكلام. وكيف لأغانٍ تروي شغف الطفولة وتيم العشاق ألا تغلف التعابير أحياناً لتروي تفاصيل العلاقات بما فيها من إغراء وغمز ولمز؟ لذا، يأخذ بك الفضول إلى تشريح بعض الأغاني التي تحفظها عن ظهر قلب، لتكتشف تفاصيل غابت عن ذهنك بعدما أسرت سفيرتنا إلى النجوم قلبك وأحاسيسك.
إلى فيروز رح نضلّ نحبّك ت تخلص الدني
"ذات مرة تناهى إليَّ من راديو السيارة صوت يغني "راجعة"، فسألتُ: من صاحبة الصوت؟ أجابوني: هذه فيروز. قلت والموسيقى لمن؟ أخبروني انها للاخوين رحباني. صوت فيروز عرفته قبل ما عرفتها. زرتها في بيتها المتواضع في حي البطريركية قرب منزل الشاعر أمين نخلة مع عاصي". روى تلك القصة الشاعر سعيد عقل عن اول لقاءاته مع فن فيروز، تلك الصبية اليافعة الخجول التي كُتب لها ان تحمل "هموم كتار"، وان تمشي دروبا طويلة وشاقة، مكللة بالغار، صوب عالم فني مشع في أبعاده الفنية والانسانية والمهنية والاخلاقية. بعد سنوات قليلة، هب الشاعر نفسه وأطلق على فيروز لقب "سفيرتنا الى النجوم" (1956)، وكتب عنها في تلك المرحلة المبكرة من مسيرتها الفنية: "غنت الارض، والوجوه الانسانية، والثورة على الظلم. وأعطت املاً للمشرد، وطهارة للحسناء، وغداً أجمل للبائسين. لا تبعد فيروز عن الشعب: من أغانيه البسيطة، من سهراته وساعات حبه، من رقصاته الحارة الحلوة تأخذ مادة. ولكنها تتلاعب بكل ذلك لتدفعه الى القلوب التي استيقظت على البهاء، بطولة، ونشوة فرح، ولذة بإبداع الجديد. على صوتها تبنى اليوم أمة".
في العالم هناك أصوات قوية جبّارة، وهناك أصوات رقيقة حسّاسة، وهناك أصوات تلامس القلب، وأخرى تحاكي العقل.. ولكل صوت مميزاته، ومكانته، وتصنيفه.وحده صوتها يقترب من حدود الكمال، ومن درجة اكتمال العناصر والأشياء، ومن اتحاد القوة والضعف، وامتزاج الوعي والإحساس، والقدرة الفائقة على التعبير.فيروز.. هي الصوت الذي يقيم في أوراق الذاكرة، ويسافر بعيداً على حدود الخيال، ويصعد إلى أعالي فضاءات الروح، وهو الصوت الأكثر حضوراً في تاريخنا الحضاري والوطني والعاطفي.كُتِبَ الكثير عنها وقيل الكثير فيها، وعلى مدى ما يقارب خمسةً وسبعين عاماً من عمرها الفني، منذ أول دخول لها إلى الإذاعة