عقد مهرجان الجونة السينمائي دورته الأخيرة (24 تشرين الأول - 1 تشرين الثاني) على هامش الحرب على غزة ولبنان. في العام الماضي، تم تأجيل طبعته التي كان من المتوقع عقدها، بسبب ما نتج من السابع من تشرين الأول، فأقيمت في كانون الأول الماضي. نُظَّمت آنذاك طبعة مقتضبة، خفيفة نظيفة، انسجاماً مع الظروف. رافقتها جدالات ومهاترات انتهت بتبرع عائلة سويرس (مالكة الجونة ومنظّمة مهرجانها) إلى الهلال الأحمر المصري كمساهمة في دعم الاغاثة في قطاع غزة، بالاضافة إلى ادخال العنصر الفلسطيني إلى المهرجان، على شكل أفلام ومواقف ودعم معنوي. حدث هذا كله مع المزيد من التركيز على الأعمال السينمائية المعروضة بدلاً من مظاهر الاحتفالية. لفترة، دار النقاش حول: هل يمكن الإحتفاء بالفنّ في ظلّ العدوان الإسرائيلي والمآسي التي تحل بالناس تدميراً وقتلاً؟ أم ان الفنّ في ذاته هو أصلاً فعل مقاومة؟
سميحونجيب ساويرس، الأخوان المؤسسان لمهرجان الجونة.
هذه الأسئلة لم تُطرح هذا العام، بعدما دخلت الأزمة عامها الثاني على التوالي، وإن تجددت في لبنان بشكل مختلف. فهذه الحروب، تنتقل بعد فترة من اندلاعها، من كونها حدثاً يتصدّر مانشيتات الصحف والأخبار العاجلة إلى واقع يومي يجب التعايش معه مهما يكن. باختصار، لا تعود تثير الا اهتمام المتضررين المباشرين منها، بعد ان ينصرف الجميع إلى شؤونه. بعد نحو سنة على عملية "سبعة أكتوبر" السيئة الذكر، ما عاد للعدوان الإسرائيلي أي قدرة على منع حدث سينمائي من الانعقاد. وها ان المهرجانات العربية تشق دروبها المعتادة لتعود إلى وتيرتها الطبيعية، من وهران والجونة والقاهرة إلى أجيال (قطر) فمراكش والبحر الأحمر في السعودية، فيُعقد الواحد تلو الآخر، من المحيط إلى الخليج، مع اختفاء تام للجدال حول ضرورتها في مثل هذا الظرف. فالإنسان كائن يتأقلم مع الظروف كافة، ويطبّع مع كلّ الأحوال، وعلى الحياة ان تستمر في نهاية المطاف.
مع بدء الدورة السابعة من الجونة، زحف كثر من أهل السينما والعاملين فيها في مجالات شتى، إلى ضفاف البحر الأحمر، حيث هذه الواحة السينمائية الواقعة وسط الصحراء والمسماة الجونة. عاماً بعد عام، وطوال سبع دورات، اعتدنا المكان وتولّدت ألفة بيننا، رغم اننا استغربناه في البداية، ولم نأخذه على مجمل الجد، بل كنا "متوجّسين" إزاءه: فمشاريع رجال الأعمال الثقافية، خصوصاً في العالم العربي، مرتبطة في المخيلة الجمعية بنزوة صيف تنتهي مع حلول الشتاء، وهي تخفي بحسب هذه المخيلة كومبينات ومصالح رأسمالية وسياسية ومخططات تقع خارج إطار الفنّ والثقافة، ومن بينها: الترويج للسياحة والعقارات، فرض نفوذ، وأمور قد تكون أبعد من إدراكنا. لكن هذا كله أصبح ثانوياً، عاماً بعد عام. فأياً يكن هدف أصحاب المشروع، عادت المصالح وتقاطعت مع الرواد الباحثين عن كلّ جديد من أحدث إنتاجات السينما. فالبلدة باتت تتكرس وتضرب جذورها في الأرض، أولاً كمكان ومسرح للأحداث، ثانياً كمنبر لحدث ثقافي فني ترفيهي. من بين الإيجابيات ان الناس باتوا يعرفون ان السجّادة الحمراء هي السجّادة الحمراء والأفلام هي الأفلام، وهذه لا تلغي تلك. هذا من أكبر التحديات التي واجهها المهرجان طوال تاريخه الفتي. وقد ساعدت أجواء الحرب على مدى العامين الماضيين، في تقليص أهمية السجّادة الحمراء، والتغطية الاعلامية المرتبطة بها التي رافقت الحدث منذ بداياته، جاعلةً منها مركز الكون وحديث رواد التواصل الاجتماعي على نحو يفيد "الجونة" من جهة ويضره من جهة أخرى.
نقاش بين إبرهيم العريسوقيسم قاسم.
في المقابل، لا نعلم ما اذا كان هذا التقليص الذي كان من شأنه التعريف بالمهرجان باعتباره حدثاً مخصصاً للأفلام لا للأزياء، أفاد كلّ الأفلام المعروضة على نحو يمدّها بالاهتمام الذي تستحقه. المتابعة والرصد لنحو تسعة أيام من الاقامة في الجونة ومعايشة أجوائها، جعلاني أنخرط في الصالات وأحتك بالحضور لأخرج بالاستنتاج الآتي: كلّ شيء يتوقّف على ماهية الفيلم المعروض ومدى رغبة الجمهور على مشاهدته. هذا السلوك “الطبيعي” ليس حكراً على جمهور الجونة، بل شيء نراه ونلمسه في المهرجانات العربية كافة. هناك فرق كبير في الحضور بين فيلم وفيلم، وكلّ شيء يتوقّف على حماسة المُشاهد حيال هذا العمل وعدم اكتراثه لهذا الآخر. ففي حين أُضيفت عروض جديدة لأفلام حقّقت اقبالاً كبيراً، شهدت صالات أخرى العديد من الكراسي الفارغة. لكن الجمهور في مجمل الأحوال هو إلى تزايد (أعلن المهرجان 5500 اعتماد و22500 تذكرة ضمن أرقام قيل انها غير مسبوقة)، فالبعض بدأ يحج إلى الجونة، بل يحضر المهرجان على نفقته الخاصة ليمضي أسبوعاً، وربما أقل أو أكثر، في ربوع بلدة يحلو فيها قضاء بعض الوقت، بين الأفلام والنجوم والأصدقاء والبحر والنسيم، بعيداً من صخب المدن الكبرى وضوضائها.
رغم ان المكان نفسه واحة للعيش الهادئ والاستجمام وتجاهل العالم الذي نعيش فيه (يزوره عدد كبير من السيّاح الألمان وغيرهم)، من اللافت ان المهرجان، كي ينال شرعية، لا بد ان يستنجد بالواقع الصرف. "نافذة على فلسطين" (قسم مستحدث يتضمن ستّة أفلام فلسطينية) هي الفكرة التي خرج بها المبرمجون العام الماضي، وعادت للسنة الثانية، والهدف منها إثنان: من ناحية، تخدير عواطف المحتجين الغوغائيين واسكاتهم، ثم نيل رضاهم لاقامة "عرس ثقافي" في زمن القتل والتدمير، ومن ناحية أخرى اسناد البرنامج بتشكيلة من الأفلام التي تحاول مد جسور بين ضفتي العالم العربي، تلك التي تعيش أماناً نسبياً وتلك التي يعاني سكّانها من الأهوال السياسية والإيديولوجية. هذا مع التذكير بأن المهرجان، منذ انطلاقه، رفع شعار "سينما من أجل الإنسانية"، وهو تعبير فضفاض يضم أي شيء ولا شيء، ولكنه قد يعني أيضاً ان هذه التظاهرة جزء لا يتجزأ من العالم ومشاكله، بصرف النظر عن التموضعات والاصطفافات السياسية، ومع ذلك لا يمكن ان نتخيل ولو للحظة ان هذه الإنسانية قد تسري أيضاً على ما لا يناسب التوجهات السياسية لأصحاب المشروع والبلد المضيف.
“برتقالة من يافا” لمحمّدالمغنّي.
ورغم ان البلد المستهدف بالعدوان عند لحظة انعقاد الدورة الأخيرة من الجونة كان لبنان، بدت فلسطين عنواناً ثابتاً لا يتغير حتى لو تغير الضحية والمستهدَف. فلفظ فلسطين أصبح كأنه بديل لكلّ المآسي العربية، وعند نطقه لا يعود من المهم قول اسم شعب آخر وبلد آخر ومأساة أخرى تجري فصولها في الشرق الأوسط. من الممكن مناقشة هذا كله في ضوء ما يحدث في المنطقة، لكن ما لم ينل حقّه من النقاش هي مبادرة الاحتفال بفلسطين من خلال عرض الأفلام كبديل من العجز السياسي والحلول الديبلوماسية والمواجهة المسلّحة، والمقصود مناقشة تكون من وجهة نظر سينمائية صرف. اذ ماذا يعني ان نختار عدداً من الأفلام لا لمستواها السينمائي بل لأنها صُنِعت في بلد أو لكونها تحكي عن قضية معينة؟ هناك كلمة واحدة من الممكن ان نصف بها هذه المبادرة: الدعاية. تلك الدعاية التي تُساند وتدعم وتتعاطف وتهتم تحت ضغط الحدث، وتدور حول سينما تأتي من مصدر واحد. للأسف، لا توجد تسمية أخرى لهذه النافذة، ولو ان نيّات المنظّمين طيبة في مجملها.
هذا لا يعني ان عدداً من الأفلام الفلسطينية المعروضة في الجونة لم تكن تستحق العرض. من بينها: "برتقالة من يافا" للمخرج الفلسطيني محمد المغني الذي كان نال الجائزة الكبرى في مهرجان كليرمون فيران الأخير في بداية هذا العام، ليصبح أول فيلم عربي ينال هذه الجائزة المرموقة، ثم أُسندت اليه في الجونة الجائزة الفضية لأفضل وثائقي عربي. الحكاية غايةٌ في البساطة: شاب من غزة (سامر بشارة) يدرس في بولندا (البلد الذي درس فيه المخرح السينما) يسعى إلى الانتقال من منطقة إلى أخرى، إلى يافا تحديداً، للقاء أمّه التي تنتظره في قلنديا، وعليه بالتالي ان يعبر حاجزاً إسرائيلياً. سائق سيارة الأجرة (كامل الباشا) الذي يوافق على نقله، هو رجل في الستينات، يتردد بدايةً ثم يستسلم لرغبة الشاب، وما هي سوى دقائق حتى يعلق كلاهما على المعبر ريثما يتأكّد جنود الاحتلال من الأوراق الثبوتية، ولكم ان تتخيلوا التتمة عندما يكتشف أحد العناصر ان لا تصريح لدى الشاب يسمح له بالدخول. والأنكى ان السائق ما عاد يستطيع لا المضي في طريقه ولا العودة إلى الخلف. انه شيء أشبه بفخ محكم. ما هو مجرد فيلم بالنسبة إلى المُشاهد، هو واقع يومي للآلاف من الناس المضطرين لاحتساء هذه الكأس المرة. معضلة درامية تُلخَّص ببضعة أسطر وشخصيتين رئيسيتين… هذا كلّ ما هو عليه الفيلم، لكن سرعان ما تتحول السيارة المتوقّفة عند الحاجز ميكروكوزماً، والشخصان المنتظران في داخلها رمزاً للعيش الفلسيطني في ظلّ الاحتلال. تعاطي الفيلم مع موضوع شديد البساطة كحق المواطن في التنقّل الحر من نقطة "أ" إلى نقطة "ب"، يجعلنا نسأل: ماذا يعني ان يعاني الإنسان، مطلق أي إنسان، للعودة إلى منزله؟!
“المخدوعون” لتوفيق صالح.
النافذة على فلسطين لم تطل على حاضرها فحسب بل على ماضيها أيضاً. وفي اطار الاستعادة لبعض الأعمال القديمة، قدّم المهرجان أحد كلاسيكيات السينما العربية: "المخدوعون" (1972) لتوفيق صالح، المقتبس من رواية "رجال في الشمس" لغسان كنفاني. هذا أحد أشهر الأفلام العربية، وقد نال "التانيت الذهب" من أيام قرطاج السينمائية، قبل ان يتحول مع مرّ الزمن إلى أحد أقوى الأعمال عن القضية الفلسطينية، وأنجزه صالح مشحوناً بكلّ الغضب والحزن والأسى الذي كان يسكنه بعد موت عبد الناصر. الحكاية: في عام 1958، في البصرة، يحاول ثلاثة فلسطينيين الهرب إلى الكويت. للثلاثة تجارب سيئة مع المهربين، اذ سبق أن جرى خداعهم وتركهم في وسط الصحراء. لكن هذه المرة يوافقون على الاختباء داخل فنطاس صهريج في عزّ شهر آب وتحت حرارة تتجاوز الخمسين. تتأخّر السيارة في المرور على نقطة تفتيش الجمارك، فيموت الشبان الثلاثة من الحرّ وعدم وجود أوكسيجين، وينتهي بهم القدر ثلاث جثث على كوم الزبالة. "وكأنهم على موعد مع الموت في غياب الحلّ العربي لقضيتهم"، قال صالح عنهم.
خاتمة الفيلم تذكّر قليلاً بالفصل الأخير من "أجر الخوف" (1953) لهنري جورج كلوزو، لكن نهاية الرواية مختلفة عن نهاية الفيلم: كنفاني أعطى موت المخدوعين سوداوية أكبر باعتبارهم سقطوا بصمت وخنوع ورغماً عنهم، أما صالح فوجد في هذا الموت نوعاً من اصرار على مواصلة النضال. وطبعاً، مرة أخرى، مُنع عرض الفيلم الذي استطاع ان يعبّر جيداً عن الواقع العربي ونكساته، في بعض الدول العربية، منها الأردن والكويت. فالهاربون الثلاثة جالسون في مكان شديد الظلمة ويقصدون المجهول. هذا خطاب صالح في حده الأدنى. انطوى "المخدوعون" على نبرة غاضبة واسلوب غنيّ بالاحالات الرمزية في تصويره درب الشقاء والخوف من أجل الوصول إلى الحرية. هذا كله في تلميح واضح إلى ان المخدوعين لم يكونوا فقط هؤلاء، بل الملايين من العرب ممّن يعيشون في العجز.
“نحن فيالداخل” لفرح قاسم.
صحيح ان فلسطين كانت محط أنظار، من خلال تخصيص فقرة عن أهوالها، لكن "الجونة" لم ينسَ أيضاً لبنان وما يجري فيه منذ نحو شهرين، وذلك من خلال انتقاء مجموعة أفلام لبنانية بعضها نال جوائز، ولا بد ان نذكر منها "نحن في الداخل"، رائعة المخرجة اللبنانية فرح قاسم التي نالت جائزتين (أفضل فيلم وثائقي وجائزة “نتباك” للسينما الآسيوية). هذا الوثائقي يأخذنا شهوداً على علاقة ابنة (فرح) بوالدها في مرحلة ما قبل الانتفاضة الشعبية التي قامت في العام 2019 وما بعدها. المكان: طرابلس. تصوّر قاسم والدها الذي يعاني أمراضاً. الرجل الثمانيني يكتب شعراً، ويجتمع بين حين وآخر بأصدقائه في منتدى للشعر. نجد أنفسنا داخل بيئة شديدة الذكورية حيث اللغة هي المعقل الأول والأخير للبطريركية. لكن المخرجة تتقدّم في مسارها بحب وعاطفة مع رغبة شديدة في الفهم والاحاطة. ستتوغّل في هذا كله، بثقة فظيغة في الذات، لتهدم الأسوار وتفك الأغلال. تفعل ذلك في البدء باستغراب، ثم تهيمن على كلّ التفاصيل. "نحن في الداخل" فيلم لا مثيل له في السينما الوثائقية اللبنانية (رغم عدد وفير من الأعمال التي تتناول الأب والأم والأسرة)، يأخذ وقته ليتكوّن وكلّ خطوة تساهم في التكوين، اذ يمتد على ثلاث ساعات وله قدرة استثنائية في الاقناع والتوغّل وملامسة الأشياء بلا أي ابتزاز عاطفي. لنا عودة موسّعة إلى هذا العمل الشديد الخصوصية الذي شق طريقه، بعد الجونة، إلى مهرجان أمستردام للأفلام الوثائقية.
عن قضية أخرى على صلة بطرابلس، عرض المخرج اللبناني هادي زكاك "سيلَما"، وهذا وثائقي يعمل عليه منذ سنوات وقد سبق له ان أصدر كتاباً ضخماً في هذا الشأن. لصالات السينما الكثيرة في طرابلس تاريخ وحضور عميقان في الذاكرة الجمعية عند أهل المدينة، خصوصاً ممّن كانوا يرتادونها في طفولتهم وصباهم، تحديداً قبل اندلاع الحرب الأهلية، وتعرفوا الى أعظم الأفلام بين جدرانها. من خلال هذه الصالات التي لا تزال موجودة، ولكنها أصبحت كومة من الركام والأنقاض يعشش فيها الماضي بمختلف مراحله، يحاول الفيلم العبور فوق التاريخ اللبناني، لكن كعمل إبداعي أكثر منه توثيقياً، كما كانت الحال مع "مارسيدس"، أحد أفلام زكاك السابقة. النتيجة: سيعرف المشاهد غير اللبناني عدداً من المعلومات التي كان يجهلها عن لبنان المختلف وسيغوص في أجوائه، في حين ستبعث المشاهدة نفسها في اذن اللبناني رنّة مختلفة.
خلال ندوة مع جوانا جاحيتوما وخليل جريج في الجونة.
يبقى الحديث عن فيلم لبناني ثالث هو "مشقلب" لأربعة سينمائيين هم لوسيان بورجيلي وبان فقيه ووسام شرف وأريج محمود. الفيلم الذي نال جائزة الجمهور، عبارة عن أربعة اسكتشات قصيرة داخل فيلم واحد يحاول الاحاطة بواقع اللبنانيين وعلاقتهم بعضهم ببعض طوال السنوات الخمس الماضية، وذلك في ضوء الأزمات المتلاحقة التي أصابت البلاد بدءاً من 2019، وتستمر إلى لحظتنا هذه. ثورة مجهضة، أزمة اقتصادية، انهيار عملة، تفشّي وباء، تفجير مرفأ، فراغ رئاسي، وغيرها من المحن التي تكدّست لتتحول مع الوقت قنبلة موقوتة جاهزة للانفجار في أي لحظة. والفيلم يضمر فكرة هذا الانفجار، فتتجسّد أحياناً بروية، وأحياناً بصخب وهستيريا.
دائماً في ما يتعلّق بالحضور اللبناني في الجونة، سينمائيان لبنانيان بارزان من مواليد بيروت، كُرِّما في المهرجان بجائزة في حفل الختام عن مجمل أعمالهما: جوانا جاحي توما وخليل جريج. انطلقت مسيرتهما في التسعينات وشملت فنّ الفيديو والتجهيز والأفلام الروائية والتصوير الفوتوغرافي. لطالما تفاعلا مع القضايا السياسية والإنسانية التي تحيط بهما لاستكشاف تأثير الذاكرة في الفرد والجماعة. عُرضت أفلامهما في أهم المهرجانات الدولية، من بينها كانّ وبرلين ولوكارنو وتورونتو، وبعضها فاز بجوائز. "بدي شوف" (2008)، بطولة كاترين دونوف، عُرض في كانّ و"دفاتر مايا”، الذي استعاده المهرجان، افتتح الدورة الافتراضية من مهرجان برلين عام 2021.
“احتضار”لماتياس غلاسنر.
بعيداً من الحضورين الفلسطيني واللبناني، كسينما فرضت نفسها وسط الخراب المهيمن، عُرضت في الجونة مجموعة أفلام داخل أقسام عدة، تنافسية وغير تنافسية. المهرجانات العربية سلّة عروض تشكّل خدمة إلى الذين يريدون ان يشاهدوا على شاشة كبيرة أفلاماً سمعوا عنها. وهكذا تسنّى لعدد من المتفرجين اكتشاف أحدث أفلام المخرج الإسباني بدرو ألمودوفار، "الغرفة المجاورة"، الفائز بـ"الأسد الذهب" في مهرجان البندقية الأخير، و"أبريل" للمخرجة الجورجية ديا كولومبيغاشفيلي الفائز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في المهرجان نفسه. بالإضافة إلى "احتضار" للألماني ماتياس غلاسنر (عُرض في مسابقة مهرجان برلين الأخير وفاز بـ"أفضل فيلم" في جوائز السينما الألمانية)، و"بذرة التين المقدّس" للإيراني محمد رسول أف (جائزة خاصة في كانّ)، و"المادة" للفرنسية كارولين فارجا (جائزة السيناريو في كانّ)، و"قصّة سليمان" للفرنسي بوريس لوجكين (ثلاث جوائز في كانّ - قسم "نظرة ما")، وغيرها من الأعمال التي يود الاطلاع عليها السينيفيليون في العالم.
يمكن القول انه كان هناك في الجونة، جرياً للعادة في غيره من المهرجانات، نوعان من الأفلام: تلك التي عُرضت في المهرجانات الكبيرة وبعضها فاز فيها بجوائز رفيعة، وتلك التي عُرضت للمرة الأولى عالمياً في الجونة. لنكن صريحين: الأفلام التي تصل إلى الجونة بعد جولة دولية هي تلك التي تحمل ضماناً بالجودة، فالمهرجانات الكبيرة ككانّ وبرلين وفينيسيا تكون قد وضعت عليها ختمها. وهذه الأفلام هي التي ينتظرها الجمهور أكثر من غيرها، وهي التي تشغل الرواد الذين يسارعون لمشاهدتها. أما تلك التي نبشها المهرجان من تحت سابع أرض، فغالباً تكون أعمالاً متواضعة وهامشية وضعيفة، الا ان هناك دائماً استثناءات تؤكد القاعدة. ومن بين هذه الأفلام التي عُرضت للمرة الأولى عالمياً في الجونة، الفيلم المصري "الفستان الأبيض" لجيلان عوف، وهو عن فتاة تنطلق في رحلة بحث عن فستان زفافها عشية عرسها. وُصف الفيلم بالضعيف والمتهافت، وهذه مشكلة العديد من الأفلام المصرية التي تنطلق من المهرجانات المصرية، أكان "الجونة" أو "القاهرة".
صورة نشرها شارل تيسونلأعضاء لجنة التحكيم.
لجنة التحكيم الرئيسية تكوّنت من خمسة أعضاء: الممثّلة الهندية نانديتا داس والمخرجة الجزائرية صوفيا جاما والممثّلة الألمانية سيبيل كيكلي والممثّلة المصرية منة شلبي، بالإضافة إلى الرجل الوحيد بينهن: الناقد الفرنسي الشهير شارل تيسون، الذي كان ناشطاً على صفحته الفايسبوكية خلال وجوده في الجونة، فنقل تحركاته بين الأفلام وموائد الطعام، مشيراً أكثر من مرة إلى غياب منة شلبي عنها. لن أكرر الحكي الذي قلته دائماً عن عدم أهلية بعض الذين في مقتبل تجربتهم لعضوية لجنة تحكيم (يبدو أنني سأكرره)، كحال صوفيا جاما التي لا تملك في رصيدها سوى فيلم روائي طويل واحد، لكن المستغرب ان هذه اللجنة التي لن نعرف أي نوع من النقاشات دارت بين أعضائها وما هو مستواها، منحت "الأشباح" للفرنسي جوناتان مييه (واحد من أضعف أفلام المهرجان)، "النجمة الذهبية"، أي أرفع جائزة، مفضّلةً إياه على 14 فيلماً آخر شاركت في مسابقة الفيلم الروائي الطويل، من بينها أعمال أفضل كـ"ماء العين" للتونسية مريم جعبر الذي كنّا اكتشفناه في برلين. هذا الفيلم التونسي واحد من أقوى الاقتراحات السينمائية العربية هذا العام. فيه تواصل جعبر الحكي عن الراديكالية الدينية في تونس ما بعد ثورة الياسمين، والتي شهد على أثرها انضمام آلاف التوانسة من الشباب إلى تنظيم "داعش" الارهابي، إيماناً منهم بالجهاد. عمل آخر يتفوّق على "الأشباح" بمراحل: "السلام عليكِ يا ماريا" للمخرجة الإسبانية مار كول التي جاءتنا بعمل ممتاز كان عُرض في مسابقة مهرجان لوكارنو الأخير، ويحمل طاقة سينمائية حقيقية وقدرة عالية في صياغة بصرية تحاكي العقل والإحساس، وهذا كله من خلال حكاية زوجة شابة (لورا فايسمار) يصبح خبرٌ عن أم أغرقت طفليها، هاجساً مدمّراً لديها، علماً انها هي نفسها أم حديثة. فيلم جميل عن الأمومة والذنب وتقييد الحريات وورطة الانجاب.
أما "الأشباح"، فيدور على حميد (آدم بيسا - نال أيضاً جائزة أفضل تمثيل) عضو في جماعة سرية تلاحق مجرمي النظام السوري الهاربين إلى الغرب. يتكلَّف مهمة تأخذه إلى ستراسبور، حيث يتعقّب أثر جلاده السابق. رغم عرضه في مهرجان كانّ الأخير، ضمن قسم "اسبوع النقاد"، فالعمل بأكلمه مصنوع لجمهور غربي، فيه سياسة لكنه غير مسيس، يأخذ عناصر من الواقع ليتلاعب بها على هواه لهدف ترفيهي، في نسق سينمائي أقرب إلى الثريللر. نخرج بشعور ان المخرج لا يفقه الكثير عن سوريا والشرق الأوسط، برغم ان سيرته تقول انه أمضى الكثير من الوقت خارج بلاده. هذا بالاضافة إلى العديد من الأشياء التي تغدو عائقاً بينها وبين الصدقية، منها الطلاقة التي يتحدّث بها البطل اللغة الفرنسية، وهو بالكاد عاش في فرنسا.
“الأشباح”لجوناتان مييه، الفائز بنجمة الجونة الذهبية.
أخيراً، وليس آخراً، كان المهرجان قد انطلق بجدال إثر إلغاء فيلم "آخر المعجزات" (20 دقيقة) للمخرج المصري عبد الوهاب شوقي الذي كان من المفترض ان يفتتح الدورة السابعة. الإدارة لم تحدد ولم تذكر سبب الإلغاء ومبرراته، وسرعان ما استبدلته بفيلم آخر في اللحظة الأخيرة، ("الرجل الذي لم يستطع إلتزام الصمت" للمخرج الكرواتي نيبويتسا سلييبتشيفيك الفائز بـ"سعفة" الفيلم القصير في كانّ الأخير)، الأمر الذي زاد مستوى الغضب عند البعض، اذ تلقّوه كاستخفاف بمسألة جادة كالمنع، وطالبوا المعنيين بموقف حازم، لكن لا قدرة لمهرجان لطالما جبه بانتقادات على مواجهة من هذا النوع مع سلطة دينية. قيل ان الفيلم مُنع شفهياً في اللحظة الأخيرة، وذلك من أعلى المراجع الدينية، الأزهر، كونه يتناول التصوف غير المحبب في مصر، لكن هذا كله غير مؤكّد ويقع في خانة التكهّنات والأقاويل، ويبقى استبعاده إلى اليوم محوطاً بالغموض. وبذلك، فوّت المهرجان فرصة ان يفتتح بفيلم قصير ويصبح رائداً في هذا المجال.
عبد الوهاب شوقي مخرج صاعد يبلغ من العمر 35 عاماً، سبق ان عمل مساعداً للعديد من السينمائيين (من بينهم السوداني أمجد أبو العلاء على "ستموت في العشرين")، قبل ان ينتقل إلى خلف الكاميرا مع "آخر المعجزات"، وهو اقتباس حر لقصّة قصيرة ("المعجزة") لنجيب محفوظ التي صدرت في إطار مجموعة قصصية "خمّارة القط الأسود" (1969) تتألف من 19 قصّة تتناول مواضيع مختلفة. يبدأ الفيلم داخل خمّارة، حيث سيتلقى يحيى (خالد كمال) مكالمة هاتفية من شخص غامض يُدعى الشيخ مأمون يخبره بأنه الكائن المختار. بعد ذلك، سينزلق صديقنا المتحمّس إلى جوف عالم جديد حيث الصوفية والدراويش والتأمل، وسيعيش ما يشبه الولادة الجديدة. لكن النهاية، للأسف، لن تكون كما يرغبها. الفيلم رحلة إلى القاهرة الإسلامية، بعالمها السفلي ورمزيتها وجمالياتها، رحلة تؤكد وجود فنان مثقّف خلف الكاميرا، له مرجعياته وفلسفته وحساسيته، على أمل ان تكون في قلب أعماله المقبلة.
المخرج عبد الوهاب شوقي.