من المبدعين (أُدباء، شعراء، فنانين، أَعلامًا،...) مَن يُثيرون جدلًا في حياتهم بين سيرتهم الخاصة والشخصية ومسيرتهم المهنية، فتدور حول حياتهم تفاسيرُ وأَقوال واحتمالات وتقديرات وتنظيرات.
ولكنَّ من النادر أَن يثير موتُ مبدعٍ أَقوالًا واحتمالاتٍ حول سبب وفاته أَو ظروف ميتته. وهذه حال الشاعر الأَميركي إِدغار آلِن پُوPoe(1809-1849) عن وفاته في ظروف مأْساوية غامضة ما زالت حتى اليوم تُسِيل آراء وتكهنات.
هذا المقال من أَربع حلقاتٍ، عرضْتُ منها في الحلقة الأُولى مقدِّمةً واحتمالًا، وفي الثانية احتمالَين، وفي الثالثة ثلاثةَ احتمالات.
في هذه الحلقة الرابعة (الأَخيرة)، أَعرضُ آخر ثلاثة احتمالات.
7. سرطان الدماغ
أَحدثُ ما صدَر من احتمالات عن سبب وفاة الشاعر إِدغار آلِن پـو، أَنه توفي بوَرمٍ خبيث في الدماغ، ما يفسر تَيَهانه في أَيامه الأَخيرة. ولدى وفاته تمَّ دفنُه بلا مراسم جنائزية، في إِحدى مقابر بالتيمور العامة، من دون لوحة شاهدة على ضريحه. وبعد 26 سنة على وفاته، أُقيم ثمثال تكريمي كبير له قرب مدخل تلك المقبرة العامة. بعدذاك حُفِرَ إِلى نعشِه وفُتِحَ، وأُخذَت بقاياهُ لدفنها مجدَّدًا في ضريح لائق. إِنما بعد أَكثر عقدَين من دفنه، لم يبقَ من جثمانه سوى نُتَفٍ راحت تتفتَّت حين كان العمَّال يحاولون جمعها لنقْلها من مكانها إِلى مكان آخر في تلك المقبرة العامة. وبين الفتات الباقي لاحظ أَحد العمَّال كتلةً غريبة في الجمجمة. يومها صدرَت الصحف بأَنَّ تلك الكتلة هي دماغ الشاعر، متغَضِّنًا لكنه شبْه سليم، بعد سنواته الطويلة في التراب. وقد لا تكون تلك الكتلة هي دماغ الشاعر، فهي أَول ما يُتْلَف من أَعضاء الجسم بعد الوفاة. لكنَّ ماتِّــيُـو پــيرل (الكاتب الأَميركي الواضع رواية عن موت پـــو) اهتمَّ جدِّيًّا بأَمر تلك الكتلة. لذا اتصل بخبير في الكشف الشرعي على الأَمراض فأَفاده بأَن تلك الكتلة لم تكن الدماغ بل كتلة ورم سرطاني يتكلَّس بعد الوفاة ولا يُتْلَفُ بسرعة بل يتحوَّل جسمًا صلبًا. واتضح لاحقًا أَن پــيرل لم يكن الوحيد الذي رجَّح أَن يكون الشاعر يعاني من ورم دماغي. وكان طبيب نيويورك نبَّه الشاعر إِلى خللٍ في دماغه يسبِّب الخطر من تناوَله الـمُسْكرات.
مكتبُه وسريرُهُ في المتحف
8. الأَنفلونزا
بين احتمالات مؤْذية صدرت عن سبب الوفاة، أَنَّ الشاعر أُصيب بالأَنفلونزا التي تحوَّلت في ساعاته الأَخيرة إِلى التهاب في الرئتين سبَّب وفاته. ويبدو أَن الأَيام التي أَمضاها الشاعر قبل مغادرته مدينة ريتشْموند (ولاية فرجينيا) زار خلالها طبيبًا شكا له وهْنًا مَرضيًّا في عافيته. وبالفعل ثبُتَ أَن الشاعر، آخر ليلة له في المدينة، كان مريضًا جدًّا، ولاحظَتْ مَن أَصبحَت زوجتَه في ما بعد، أَن ضغط دمه كان منخفضًا بشكل خَطِر، ويعاني من حُمَّى شديدة، واقترحت عليه أَلَّا يذهب إِلى فيلادلفيا (كان ينوي الذهاب إِليها كي يساعد على نشْر مخطوطة لإِحدى الشاعرات الناشئات). وحين عاد إِلى زيارة الطبيب نصحه بأَلَّا يسافر إِلى فيلادلفيا لأَنه مريض جدًّا. وعن إِحدى صُحُف تلك الفترة أَنْ كان المطر شديدًا في بالتيمور حين وصلَها الشاعر، وهو ما يفسِّر للبعض أَن يكون ارتدى ثيابًا ليست له، فالمطر والبَرْد هاجما جسدَه الناحل المصاب بزُكام الأَنفلونزا فالتَهَبَت رئتاه الضعيفتان، وازداد عليه ضغط الحُمَّى فتاه وضاع وصار يهذي من دون وعي.
ساحةٌ باسمه أَمام المتحف
9. الاغتيال
سنة 2000 أَصدر الكاتب الأَميركي جون والْش (1927-2015) كتابه "كآبة منتصف الليل: إِدغار آلِن پــو في موته الغريب"، وفيه يرجِّح الاغتيالَ سببًا لوفاة الشاعر، إِذ اعتدى عليه أَشقّاء خطيبته الثرية سارة إِلْميرا شِلْتون. واستند الكاتب والْش في فرضيته إِلى صحف تلك الفترة وإِلى بعض الرسائل والمذكرات الشخصية، ليستنتج منها أَن پــو عاد فقرَّر الذهاب إِلى فيلادلفيا، وفيها كان قبلذاك كَمَنَ له أَشقَّاء سارة الثلاثة الذين كانوا هدَّدوه أَلَّا يسعى إِلى الزواج من شقيقتهم سارة. لذا غيَّرَ ثيابه وارتدى ثيابًا أُخرى رثَّة تمويهًا كي لا يتعرف إِليه الإِخوة الثلاثة. وتسلل إِلى فيلادلفيا وبقي فيها نحو أُسبوع، ثم عاد إِلى ريتشموند كي يتزوج من سارة. لكن أَشقاء سارة اعترضوه فيها وانهالوا عليه ضربًا ولَكْمًا، وأَرغموه على تَجَرُّع كمية كبيرة من الويسكي، مدركين أَن الويسكي ستدمِّر صحته ووعيه، وتُودي به إِلى الموت.
إِحدى غرف بيته/المتحف
نظرية غير موثَّقة
هذه الفرضية لم يَتَبَنَّ فصولَها المؤَرخون وكتَّاب سيرة الشاعر، وأَحدُهم - الناقد إِدوين بارتون - كتَب نقدًا لكتاب والْش جاء فيه أَن نظرية والْش من نسج الخيال وغيرُ مقْنعة، وهي ليست أَكثر من مسلِّية وطريفة ولا تنفع أَن تكون مرجعًا أَكاديميًّا موثوقًا للباحثين.
وفي الخلاصة، يرى كريستوفر سِمْتْنِر (مدير متحف الشاعر في ريتشموند) أَنْ لا نظرية واحدة مثبتة لسبب وفاة الشاعر، ويقول: "لم يُقنعْني احتمالٌ واحدٌ مما صدَرَ عن وفاة الشاعر من احتمالات. ورأْيي أَنّ الوفاةَ نتيجةُ عدد من العناصر تجمَّعت معًا لتسبب وفاته. وأَرى أَن طبيبه المناوب ليلةَ وفاته هو المرجع الأَقرب منطقيًّا، إِذ سَجَّل في تقريره عن الوفيات أَن الشاعر كان يعاني من التهاب في الدماغ أَو في السحايا، وهو ما يبرر طبيًّا مؤَشرات هذيان الشاعر قبيل وفاته".