بعد طوفان الأقصى وما تلاه من ممارساتٍ عنيفة تصل الى حدّ الإبادة في غزة، تفاعل الشاعر والروائي الفلسطيني المتوكل طه إبداعياً عبر عمليْن، الأول هو كتاب "دم النار: توقيعات على جدران غزة"، ويضم نصوصًا تمزج الشعر بالنثر، والثاني رواية عنوانها "أخبار نصف جيدة".
وبهذين العمليْن يتصل إبداع المتوكل طه، شعرًا ونثرًا، وجهداً بحثيا وتوثيقيًا، في بؤرته الاساسية، القضية الفلسطينية ومقاومة المحتل.
وقبل أسابيع قليلة حصل على جائزة فلسطين للأدباء المصريين والفلسطينيين، في أدب المقاومة، للعام 2024، من لجنة الجوائز في النقابة العامة لاتحاد كُتّاب مصر. المتوكل طه (مواليد مدينة قلقيلية عام 1958) هو رئيس منظمة "شعراء بلا حدود" في فلسطين وعمل محاضرًا في أكثر من جامعة فلسطينية، حصل على دكتوراه في الآداب، وعلى الماجستير في الأدب والنقد من جامعة اليرموك في الأردن، وعلى الدكتوراه في الفنون والآداب من معهد الأبحاث والدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية في القاهرة، وأصدر ما يزيد عن خمسين كتابًا في الشعر والسرد والنقد والفكر.
عن أدبه ومواقفه والظروف القاسية التي تعيشها فلسطين اليوم، تحدثنا مع المتوكل طه وكان لنا معه هذا الحوار:
*كتبت عن تبعات السابع من أكتوبر علما أنّ الأحداث مازالت ملتهبة. ألم تخف من أن توصف كتابتك بالمتعجلة؟
-حلقات الإبادة بحق شعبنا قديمة، تشتد وتخفت، لكنها بعد "الطوفان" اتخذت منحى مهولًا صادمًا، استبدلت من خلاله "إسرائيل" استراتيجية الحسم التدريجي بنظرية الرّعب، ما يجعلنا لا نتفاجأ بكل أشكال الفناء الفاشي الاحتلالي، فهو صورة مكرورة، وهذا ما يفسّر الصمود والمقاومة الفلسطينية التي تعدّ نفسها دائما للردّ. وأرى أننا لا نملك متّسعًا من الوقت لنتأمّل؛ لأن غزة تُباد، وتغرق في حمأة المحرقة، وتتوزّع أهواؤها في تعافر المقتلة وأشلائها، وهي بحاجة إلى مَن يحدو مظلمتها غير المسبوقة، ويسجّل كامل المشهد، ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، حتى لا تتبدد التضحيات الجسام، وحتى يبقى هناك شاهد على المجازر التي دمّرت وسحقت ومحقت الحياة بكل مكوّناتها. والنصّ خير مَن يقوم بذلك، شرط أن يختمر، ولا يقع في شِباك الكتابة الميدانية الصارخة والمباشرة.
*كيف ترى حضور المأساة الفلسطينية في آداب العالم وفنونه في السنوات الأخيرة، وفي المستقبل المنظور في ضوء صور التضامن المعبر عنها شعبيًا الآن في كثير من دول الغرب مع الفلسطينيين إزاء ما يتعرضون له من مجازر ترقى إلى حدّ الإبادة؟
-باعتباري فلسطينياً، يذبحونه من الوريد إلى الوريد، فإنني أريد شيئًا واحدًا، هو الحياة. الحياة دون جنود وصورايخ ومدرّعات ورصاص وغاز وسجون وحواجز وركام وتهجير وجنازات وجوع وعتمة وعطش وهراوات واستهداف وموت لا يتوقف. أريد كل ما يحقق لي الحياة، دون أن أقدّم أيّ اعتراف مجاني بجدوى ما لا ينفعني، بل يقتلني. لكنّي أعوّل على المؤسسات الأهلية وعلى الشعوب الحيّة، التي جعلت شوارع العالَم فلسطينية، وكسرت احتكار إسرائيل لصورة الضحية، وهبّت تنادي بوقف العدوان.
*هل تتفق مع الرأي القائل بأن الأدب في الحالة الفلسطينية لا بدَّ أن يتّخذ سمة المقاومة؟
-ما دمت تحت الشرط الاحتلاليّ فأنتَ لستَ حياديًا، ولا تملك رفاهية الاختيار، ساعة المواجهة الفارقة. فإما أن تكون مع نفسك وشعبك ووطنك، أو مع أعدائك. ولا توجد، هنا، منطقة رمادية. وفي فلسطين الرازحة تحت احتلال إحلاليّ يفرض استراتيجيات حاسمة ضدنا، لاقتلاعنا وتذويبنا والقضاء على قضيّتنا، لا بدّ من تحقيق نظرية التحدّي، بكل مكوّناتها، لمواجهة الاحتلال وأهدافه، وهذا لا يكون إلا بإشاعة وممارسة المقاومة، بمعناها الواسع والشموليّ. أما دون ذلك فسنجد أنفسنا خارج الزمان والمكان والتاريخ.
*كيف ترى حال هذا الأدب؛ سواء المنتج داخل فلسطين أو خارجها في السنوات الأخيرة؟ وماذا عن صداه في المحافل الثقافية ومدى تأثرها بالعوامل السياسية، وهناك في هذا الصدد مثلان هما عدنية شبلي التي فازت بجائزة ألمانية وحُرمت من التكريم في معرض فرانكفورت العام الماضي، وفوز الأديب الأسير بسام خندقجي بجائزة البوكر العربية؟
-إن القصة أو القصيدة التي ولدت في الأرض المحتلة بعـد احتلال العام 1967، كانت بصورة أو بأخرى، قصة الجماعة، ونصّ المكان، وقصيدة التحريض، بشكلها المهم. بعد العام 1993 ومع اتفاقيات أوسلو، فإن الحركة الأدبية الفلسطينية في الداخل واجهت مسائل أخرى. كان عليها أولًا أن تتوازن؛ بمعنى البحث عن لغة جديدة وآفاق جديدة ومرافئ للعودة إليها. وكان عليها أن ترد بشكل أو بآخر على تحديات من نوع ثقافي لم تتعود عليه، كالعلاقة مع الآخر، والعلاقة مع السلطة. وكان عليها، أيضاً، أن تقارن نفسها بالتجارب العالمية. وبعد أوسلو فقدت القضية الفلسطينية الكثير من أهميتها ومحوريتها وقداستها بسبب التطبيع الرسمي الفلسطيني مع الاحتلال. لكننا بدأنا نتخارج مع عمقنا العربي والعالمي، إلى حد ما، فبقينا منكفئين على أنفسنا، لولا بعض الاختراقات، هنا وهناك، والتي أوصلت بعض المنتج الأدبي إلى المتلقّي العربي والإنساني. لكنّ تواصلنا الخارجي مازال قاصرًا، ولم يحقق ما نحلم به من روافع توصلنا، لنتفاعل مع نتاج ما يحيط بنا. وأعتقد أن حمولتنا الأدبية لم يتم تناولها، كما ينبغي إلا قليلًا جدًا، وأخشى أن يكون "التعاطف"معنا باعتبارنا الضحية، هو أحد أسباب دعمنا بالجوائز، مع أن هذا لا ينفي فنيّة الفائز وتميّزه.
تأريخ وتوثيق
*هل الأدب قادر على سدّ ثغرات التأريخ والتوثيق؟
-ثمة نقصٌ جارحٌ نعاني منه، نحن الفلسطينيين، يتعلق بتأصيل تاريخنا النضالي والثقافي وحتى الاجتماعي وغيره. وباعتقادي؛ فإنّ أي كتابٍ أدبيٍّ لا يكاد يخلو من "سِيرةٍ" ما، لهذا، من المفيد أنْ نؤرّخ لكل ما مرّ بنا من أحداث، بهدف تأصيل روايتنا، التي مهما كانت شخصيةً ذاتيةً، فإنّها تظلّ سيرةً عامةً، لصعوبة فصم الخاص عن العام، وتداخلهما في وضعنا الفلسطيني، وحتى لا تظلّ ذاكرتنا عُرْضةً للفناء، ولأن المعاناة بصمتٍ تُعمّقها، وعلى العالَم أن يعرف! وأظنّ أنّ الكُتّاب الفلسطينيين مُطالبون بأن يمتلكوا القدرة الكافية لاجتراح بلاغةٍ تساوي بلاغةَ الدم المسفوح أو تُقاربها، وهذا تحدٍّ خاص بهم، ويزيد من ارتباكهم. وإذا كانت ليلتُنا سيّئةً، فهذا لا يعني أن يكون صباحنا سيّئاً، أيضاً.
*في ظل العدوان المستمر، كيف ترى العمل الثقافي الفلسطيني ببعديه الرسمي والشعبي؟ هل يملك مقدرة على مجابهة ذلك العدوان الهادف إلى محو الهوية الفلسطينية بمختلف تجلياتها ؟
-العدوان على غزة كشف الانحيازات والاستقطابات والاصطفافات، وكشف الهزيمة التي تعشّش في صدور كثير منا. وبالمقابل، كان هذا العدوان المجرم دافعاً إلى الرؤية الواقعية الحقيقية، فإسرائيل النووية ضعيفة من داخلها، فجغرافيتها وديموغرافيتها وبنُيتها الاجتماعية والاقتصادية لا تحتمل المقاومة ولا الصمود، ولا تحتمل المواجهة الحقيقية والإرادة الصلبة والموقف السياسي المبني على مصالح الأُمّة. لا أريد أن يكون جوابي نمطيًا؛ فالمؤسسة الرسمية فشلت بامتياز. عدد من المثقفين راوغوا وراحوا إلى الظلّ، فيما ظلت مجموعة تناطح وتجمح وتقاتل بإبداعها. ولكن الذين ظلوا على جبهة الصمود هم مبدعو غزة، دون استثناء.
أثر النشأة
* من أين أتى البعد الرعوي في شعرك ونثرك؟ ومن ممن ذكرتهم في كتابك الأحدث "أولئك آبائي" كان له تأثيره في اتخاذك هذا المنحى؟
-نشأتُ في فضاء ريفيّ، وكنتُ محصّلة مكوّناته الاجتماعية، التي أكسبتْني هويتي الثقافية. غير أني ذهبت عميقًا في سبر غور هذا المحيط الباذخ الفتّان، وإظهار محاسنه، والتغنّي بها، بهدف صيانتها؛ لأنها مهددة بالزوال والتجريف. وكأني اُلحفُ على المشهد الرعوي لأُعمّق به مدارك الأجيال الطالعة لتعانقه وتمتلكه، وتدافع عنه وتحفظه. أما أساتذتي أو آبائي الروّاد المبدعون، فهم الذين أصّلوا مدارِكنا، وتعلّمنا عليهم، وترسّمنا خُطاهم، في هذا البرّ الأدبي المُشرع الصعب.
*كيف تقوّم النشاطات الثقافية في فلسطين وهل ما زالت قادرة على المواصلة بعد كل ما حدث ويحدث في غزة؟
-العمل الثقافي في الأرض المحتلة يعاني الكثير من الإهمال، وقلّة الدعم الوطني، وغياب الاستراتيجيات وآليات العمل النافذ، وهو عمل موسميّ، أقرب إلى الارتجال، وأقرب ما يكون إلى "الاكسسوار"، بمعنى أن الثقافة الفلسطينية تتعرّض لاشتراطات التمويل المشبوه والمشروط، ولعدم توفّر الروافع والمنابر والمراكز وطرائق الانهاض الحق. باختصار؛ لدينا مبدعون مميزون وذوو حضور كبير، ولا توجد لدينا مؤسسة بحجم التحديات والمطلوب. والآن، بعد العدوان المجنون على غزة، فإن عجزنا بات أكثر وضوحا، ونبدو، على المستوى الرسمي، أكثر فقرًا وعريًا، مما كنا نعتقد.