تُحيط هالةٌ من الترقّب مخطوطةً مطبوعةً بالكربون لرواية "الأمير الصغير"، تتجمهر حولها جماعاتٌ جماعات، يُحملق الواحد تلو الآخر بها، ويتفحّصون أصغر التفاصيل.
على ورقة طُبعت بالـ"دكتيلو"، وتحمل المقاطع الأخيرة من الرواية، تصحيحاتٌ مكتوبة بخطّ يد الكاتب أنطوان دو سانت-إكزوبيري، تُشكّل مجتمعةً مع أوراق أخرى، بعضها يحمل "خربشات" ورسوماً أوّلية، واحدةً من ثلاث نسخٍ أصليةٍ فقط معروفة للرواية؛ وهي النسخة الوحيدة المطروحة للبيع العام مقابل 1.25 مليون دولار.
من قلب المنفى
الحرب العالمية الثانية تستعر، وها هي المواجهة تُعلن ما بين فرنسا وألمانيا النازية. يُستدعى سانت-إكزوبيري إلى الخدمة في سرب جوّي لتنفيذ مهام استطلاع فوتوغرافية. ستة أسابيع من نار ورماد أعقبتها هزيمة فرنسا. العواقب وخيمة؛ الجمعية الوطنية الفرنسية توقّع على قانون منح المارشال فيليب بيتان سلطات استثنائية لتشكيل حكومة. نشأ نظام فيشي، وانتهت الجمهورية الثالثة.
بعد الهزيمة، لجأ سانت-إكزوبيري إلى نيويورك ساعياً لإقناع الأميركيين بالانخراط في الحرب. كان أمامه متّسع من الوقت ليُعيد التفكير في التجربة التي عاشها. ممزقاً بين عشيقاته وزوجته التي بقيت في فرنسا، ومحبطاً لمنعه من القتال، إذ رأت فيه القوات الجوية الأميركية رجلاً كبيراً، ومنفصلاً تماماً عن مجتمع المغتربين، الذين "يحلّلون الحرب أثناء شرب الشمبانيا"، عانى سانت-إكزوبيري اكتئاباً شديداً. في تلك الفترة، أبدع من دون أن يدري ما بات يُعرف بـ"وصيّته الأدبية".
(بيتر هارينغتون)
بعد عامَيْن على الهزيمة والتخبّط النفسي، قَبِل ذلك الذي قيل عنه إنّه "الإنساني الذي بدأ يشكّك بجدّيةٍ في الإنسانية" اقتراح ناشريه الأميركيّين بكتابة قصة للأطفال، تصدر في فترة عيد الميلاد، بعدما رأوه يرسم شخصية بسيطة على طاولة. وضع سانت-إكزوبيري كلّ ما في داخله على صفحات "الأمير الصغير"، الذي يصلح لكلّ زمان وكلّ مكان.
صدر الكتاب للمرة الأولى في الولايات المتحدة عام 1943، ولم يُنشر في فرنسا إلا بعد وفاة الكاتب عام 1946. وفي غضون 80 عاماً، بيع أكثر من 150 مليون نسخة منه حول العالم، بحسب "مؤسسة أنطوان دو سانت-إكزوبيري"، مما يجعله الرواية الأكثر قراءة في التاريخ، وواحداً من أكثر الكتب ترجمةً في العالم بعد الكتاب المقدّس.
ما يُدرَك بالقلب لا يُرَى بالعين
عندما فرغ من كتابة "الأمير الصغير"، قبل فترة وجيزة من مغادرته للانضمام إلى القوات الفرنسية الحرة، خطرت لسانت-إكزوبيري فكرتان دوّنهما بقلم رصاص على إحدى مسوّدات الكتاب: "لا تتسنّى البصيرة لأحدٍ إلّا لمن يرى بقلبه؛ جوهر الأشياء لا تُدركه العين". هل تخيّل أنهما ستصبحان من أشهر العبارات في الأدب العالمي؟
(أ ف ب)
تظهر هذه الجملة في الصفحة 57 من النسخة المطبوعة بالآلة للنصّ، والتي تحمل ملاحظات بخطّ يد المؤلف، وعُرضت للبيع هذا الشهر في أبوظبي. في الفصل الحادي والعشرين، وأثناء الحوار مع الأمير الصغير، كتب سانت-إكزوبيري في النسخة الأولى على لسان الثعلب: "الأهم هو ما لا يُرى". غير أنّه شطب العبارة واستبدلها بعبارته الشهيرة التي تحتفي بالبصيرة، والتي تتيح للقارئ أخذ فكرة عن تطوّر عملية تأليف الكتاب وتعطي، إلى جانب النسخة النادرة بشكل عام، لمحةً عن طريقة تفكير سانت-إكزوبيري.
أثناء فكّ رموز المخطوطة، قبل عرضها للبيع ضمن فعاليات FAB Paris في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام الماضي، اكتشف الخبراء أنّ الكاتب جرّب عبارات مختلفة قبل التوصّل إلى عبارته الأيقونيّة، من ضمنها "ما يهمّ غير مرئي"، و"الأشياء الجوهرية دائماً غير مرئية"، وحتى "لا يرى المرء جيّداً إلا بقلبه".
"هذا السطر أتعب سانت-إكزوبيري"، تقول ستايسي شيف في السيرة التي كتبتها عن المؤلف، "فقد كان يقدّم صياغاتٍ منقّحة له على مدى خمس سنوات". ومن بين أبرز التغييرات، التي أجراها على المسوّدة، قيامه بإزالة الإشارات إلى نيويورك، واستبدالها بدلالاتٍ ومصطلحاتٍ أكثر عالمية، ووضع اللمسات الأخيرة على المقاطع الرئيسية للمسوّدة، وفق دار بيع الكتب النادرة الرائدة في لندن "بيتر هارينغتون"، التي عرضت النسخة في "فن أبوظبي".
نسخة تُعرض للمرة الأولى
لم يُكشَف عن اسم الجامع الذي قرّر التخلّي عن الكنز الأدبي عام 2023. ويُشير بوم هارينغتون، صاحب "بيتر هارينجتون"، الذي التقته "النهار" في أبوظبي، إلى ثلاث نسخ مطبوعة بالآلة وموثّقة من الكتاب: الأولى، أهداها المؤلف لعازفة البيانو، وقائدة الأوركسترا، ناديا بولانجيه، وموجودة في المكتبة الوطنية الفرنسية؛ والثانية، نُقلت إلى صديقه المترجم لويس غالانتير، وانتهى بها الأمر ضمن مقتنيات جامعة تكساس في أوستن.
(بيتر هارينغتون)
أما النسخة الثالثة، والتي تتضمّن أهم التعديلات وفقرات لم تُنشر، فيروي هارينغتون أنّ "عائلة الكاتب احتفظت بها حتى ثمانينيات القرن الماضي، ثم بيعت في مزاد لندني عام 1989 مع رسومات مائية أخرى، وبقيت ضمن مجموعات خاصة منذ ذلك الحين، إلى أن حصلت عليها "بيتر هارينغتون" قبل بضعة أشهر، وأُحضرت إلى أبوظبي لتُعرض لأول مرة". ففي آخر مرة بيعت، اختار البائع إتمام الصفقة عبر بائع كتب وليس عبر دار مزادات، وفق ما أوردت آنذاك وكالة الصحافة الفرنسية. وتالياً، لم يكن البيع علنيّاً، ولم يُكشف عن أيّ تقديرات أولية أو قيمة الشراء.
تحمل هذه النسخة النادرة قيمة عاطفية كبيرة، إذ إنّ سانت-إكزوبيري الذي لم يعُد من مهمته الاستطلاعية الأخيرة في عام 1944، لم يتسنَّ له الاستمتاع بالنجاح الساحق الذي حقّقه عمله. وتحمل ملاحظات على الغلاف الداخلي، منها بعض الحسابات الموجزة (مالية على الأرجح)، ورسوم لمخططاتٍ أرضية. كما أنّ الكاتب رسم ملامح مجهولة الهوية، منها ما يعود لشخصية يبدو أنّها بعنوان "السيد طنجة"، إلى جانب رسمٍ لشخصية غير واضحة، لا تظهر في الرواية، وقد تكون تمثيلاً لمحاكمة الرجل العبثي، أو -ربما- رسماً كاريكاتورياً لشخص آخر.
وقد رافق المخطوطة رسمان أصليّان غير مكتملين بقلم رصاص لشخصية الأمير الصغير، أحدهما يُظهره ممسكاً بعصا، وقد يكون تصوراً مبدئيّاً لحراثته أرضه لمنع الاستيلاء على بذور التبلدي. أمّا الرسم الآخر فهو مسوّدة للرسم التوضيحي النهائي للكتاب، الذي يُظهر الأمير الصغير وهو عائدٌ إلى منزله.
(أ ف ب)
إلى جانب ذلك، يتحدّث هارينغتون لـ"النهار" عن "قطعة أثرية مهمة"، وهي الشيك المصروف بقيمة 100 دولار لشراء زيّ شبيهٍ بزي القوات الجوية الفرنسية الذي طلبه سانت-إكزوبيري، وارتداه في آخر مرة زار فيها شقة سيلفيا رينهارد، في بارك أفينيو، قبل عودته إلى الحرب. وقد ترك حينها لصديقته المخطوطة الأصلية الموجودة اليوم في مكتبة مورغان في نيويورك.
عوّلت "بيتر هارينغتون" وسامي جاي، كبير اختصاصيي الأدب فيها، على المخطوطة لاستقطاب اهتمام هواة جمع الأعمال الأدبية حول العالم من القطاع الخاص والمؤسسات الحكومية، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط وآسيا، خاصة مع الأهمية الثقافية الكبيرة التي تستأثر بها الرواية. ويبقى مصير "الأمير الصغير" مجهولاً بعد حلوله في أبوظبي، إذ لم يُعلن إتمام الصفقة، غير أنّ إرث أنطوان دو سانت-إكزوبيري حضر قوياً ليحكي لغة أدبياً عالمية لا تحدّها أيّ حدود.