النهار

إغراءُ الشعبوية في العالم العربي بين المفهوم والواقع
أحمد المديني
المصدر: باريس- النهار
"إغراء الشعبوية في العالم العربي ـ الاستعباد الطوعي الجديد" هو عنوان الكتاب الذي صدر هذا العام للكاتب المفكر المغربي حسن أوريد، بالاشتراك بين هاشيت أنطوان نوفل، والمركز الثقافي العربي، بيروت. بحثٌ شاسعٌ ينكبّ على دراسة إحدى القضايا والظواهر السياسية في الألفية الثالثة، والأشدّ بروزًا وتمكّنًا في عالم اليوم لا تكاد قارّةٌ تخلو دولةٌ فيها من معالمها وتمثيلاتها الدّولتية والمؤسساتية والجماهيرية، وشيوعها ثقافةً سياسيةً عارمةً تبتغي الهيمنة.
إغراءُ الشعبوية في العالم العربي بين المفهوم والواقع
الغلاف
A+   A-

"إغراء الشعبوية في العالم العربي ـ الاستعباد الطوعي الجديد" هو عنوان الكتاب الذي صدر هذا العام للكاتب المفكر المغربي حسن أوريد، بالاشتراك بين هاشيت أنطوان نوفل، والمركز الثقافي العربي، بيروت. بحثٌ شاسعٌ ينكبّ على دراسة إحدى القضايا والظواهر السياسية في الألفية الثالثة، والأشدّ بروزاً وتمكّناً في عالم اليوم لا تكاد قارّةٌ تخلو دولةٌ فيها من معالمها وتمثيلاتها الدولتية والمؤسساتية والجماهيرية، وشيوعها ثقافةً سياسيةً عارمةً تبتغي الهيمنة. 
الحق أن العنوان الذي وضعه المؤلف لكتابه، وإن حمل هذا المصطلح الصاخب، لا يصبّ في قلب هذا الموضوع بقدر ما يُستخدَم مدخلاً لرسم خريطة بانورامية للأوضاع السياسية في العالم العربي من نواحي الطبقة الحاكمة والقوى المهيمنة والنُّخب المتمركزة والمصالح الموزعة والمستحوَذِ عليها، هنا وهناك؛ واعتماد موضوع الشعبوية ذريعةً لعملية تشخيص ما يراه المؤلف عاهات في الجسد السياسي العربي العضوي والرمزي، بتشريحه وتفكيكه بمَبضَعٍ نقديٍّ لاذعٍ وإداني لا ينجو منه أيُّ نظام عربي، وبالاستمداد من وقائعَ محلية وأخرى دولية، فتتراوح الدراسة ـ التشخيص بين معاينة (ميكرو وصفية نقدية) وثانية (ماكرو استراتيجية).
لتبيان هذا المنزع ينبه المؤلف في توطئة كتابه إلى أن :
1-أغلب فصوله حُرِّرت قبل "طوفان الأقصى". 
2ـ أن عمله بمثابة تقرير مرحلة عن العالم العربي" يصلُح أن يكون ملفاً طبياً لعالم يعود إلى واجهة الأحداث"(ص13).
3ـ أن العالم العربي: "استنفد السرديات الجامعة من قومية عربية إلى إسلام سياسي، فانتشاء خلال الربيع العربي، لكنه مُنيَ بإخفاق في مسرى كلّ موجة لكيلا يَلقى من بديل لهجير الكبوات سوى سرابِ الشعبوية"(15).
 4ـ إن غرضه كما استخلصناه أبعد من الوقوف على ظاهرة الشعبوية ومعاينة أعراضها، إلى ما يثوي وراء الأعراض، بما يعني دراسة الوضع العربي مجملًا "من بوّابة الشعبوية". 
لينتقل متسرِّعًا قبل عرض (أطروحاته) وما أكثرها، إلى إصدار حكم تشاؤمي جازم على العالم العربي برُمّته بكونه يعيش وضعية "استعباد طوعي" مستعيراً المفهوم ومضمونه دون الإشارة إليه من المفكر الفرنسي (La Boétie  de 1530ـ1563) في كتابه:" Discours de la servitude volontaire" خطاب العبودية الطوعية|"(1548) يعيد فيه النظر في شرعية الحكام الذين يسمّيهم " السّادة" أو الطُّغاة"، ويعزو ديمومة حكمهم قبل كل شيء ليس إلى الخوف منهم ولكن عادة الشعب على العبودية أو الخدمة، واجداً السرَّ الحقيقي للهيمنة في " إشراك المُسيطَر عليهم في السيطرة" .

 

تعالوا نعرض أين وكيف يتجلى هذا التعيين والتوزيع، يبدأ في الجزء الأول من الكتاب بطرح موضوع الديموقراطية ومنها إلى العيش، ويشمل عناوين: فشل الانتقال الديموقراطي؛ ارتدادات الإسلام السياسي؛ الهويات الوطنية، انتهاء في الفصل الرابع بـ" اللحظة الشعبوية". يليه الجزء الثاني تيمتُه "العوائق البنيوية" مجسدةً في: العقدة السياسية، يقصد بها قضية الحوْكمة، أو غياب الحُكم الرشيد، وأبعد منها شرعية الحكم. من هذا المنظور يستعرض أنظمة الحكم العربية بين نشأتها وآليات استمرارها وأشكال بنياتها واستداماتها عبر شبكة علائق ومصالح داخلية وخارجية. في الفصل الثاني من هذا العنوان يسعى للكشف عن "الخلل الاقتصادي أو خلل الرّافعة" متمثلاً في أنه خلافاً للمعهود من أن الليبرالية الاقتصادية تُسهم عموماً في الدمقرطة، نجد المنظومة الاقتصادية في العالمة العربي، وهي ذاتُ (طابع رِيعي) مناوئة لهذا الهدف، وتعزز السلطوية، وتعدِم تثوير العلاقات العامة والاجتماعية، اقتصاد طابعُه الأساس الرِّيعُ بكل ما ينطوي عليه هذا النمط من حالات عنف، وتسلُّط سياسي، وسطوة أمنية على الحقل السياسي، وما يتميز به انعدام الشفافية، وتحكم في مصادر الثروة وتسخيرها، وتفشّي ممارسات طفيلية من قبيل التواكلية والتملّص الضريبي والمضاربة. ومنه إلى اقتصاد المحاباة، وتوسُّع مصلحة الأوليغارشية (منهم رجال الأعمال) فوق مصلحة البلاد.  

يعالج الفصل الثالث (القضايا الاجتماعية والثقافية المعلقة) ناجمة عن الأوضاع السياسية، واضطراب المعايير، واستفراد الأوليغارشيات بالثروة. مصدرها كذلك أسباب موروثة، وتحولات حديثة طارئة مثل النزوح ومشاكله، وهذه من الإغراءات الكبيرة للحالة الشعبوية لا يكفي المدّ الثقافي التحديثي لصدِّها بسبب طابعه الشكلي أكثر من امتلاكه لرؤيةٍ وقيَمٍ تنويرية. من هنا يعتبر الباحث حسن أوريد أن الوضع الاجتماعي في العالم العربي بسِماتِه المحافِظة وثقافته التقليدية، والتفاوتات المجالية، والفوارق الصارخة بين الغنى الفاحش والفقر المدقع، وتقلص وتناقضات بنيوية للطبقة الوسطى، ناهيك عن مشاكل الشباب وهي عديدة، هذا كله وغيره مجتمعاً من انسداد الآفاق قابل لأن يؤدّي إلى الغضب ودفع إلى الارتماء في حمأة الإرهاب، بعد خيبة أمل من أحزاب اليسار والحركات الإسلامية، في مصر والأردن وتونس. 
في القسم الثالث يصل أخيراً إلى ما يتطلع القارئ إلى معرفته وفهمه، أو يظن أنه يصل. 

بعد قرابة ثلاثمائة صفحة من مبحث متشعِّب المقالات من عديد مشارب العلوم السياسية، وتَدافع المرجعيات الغربية نصوصاً وأعلاماً، لا نجد المؤلف يقدم لنا تعريفاً لمفهوم أو مصطلح الشعبوية ما عدا أن إغراءها "من منطق العالم العربي هو البديل أمام فشل الانتقال الديموقراطي وأمام نفوق السرديات الكبرى"(18) ومن ثم يحدد حقله ويعلن أنه:"يقصُر الحديث [في مؤلفه] عن تموّجات مجتمعاتٍ بها حركية شعبية، وتعيش وضعًا اعتيادياً غير الدولة الفاشلة". 
يعتمد أوريد أخيراً ما يسميه "الشعبوية المعلنة" من خلال الحالة التونسية. لماذا؟ يعدها:" الحالة الوحيدة في العالم العربي التي تستوفي شروط الشعبوية، كما هو متعارف عليها، على مستوى العلوم السياسية عالمياً، من خلال شيطنة النخب، وتبخيس المؤسسات، ومحورية القائد، وجملة من قرارات تدخل في ما يسمى تقويض الديموقراطية-démocratisation Dé" مع إضافته نعت هذه الشعبوية بـ"السلطوية"(281). وهذه إحدى الصفات التي سيضعها الباحث للتيمة المدروسة ويلحق بها تفريعات وامتدادات لتصبح إطاراً يدخل فيه تجارب متعددة لبلدان عربية حددها في (المغرب، السعودية، مصر، العراق، الأردن، لبنان، الجزائر) مستثنياً البلدان ذات الطابع القبلي. عن كل واحد مما اختار يسهب في توصيف وتحديد سمات شعبويته، يراها كلها سلبية، تحكُّمية، تضرب عرض الحائط قواعد الديموقراطية ودولة المؤسسات، تنبذها وتستعيض عنها بقرارات فردية مطلقة وبإحكام الطوق حول الحقوق وتدبيرها بمفهوم وأسلوب (العادل المستبد) صانعة إيديولوجيتها من إخفاق البراديغمات السياسية والاقتصادية السابقة، ومنتصبة بديلًا عنها بتواطؤ مع قوى وأجهزة ومصالح تعتبر نفسها طهرانية ممثلة الشعب.
أكاد أقول إن الكتاب الجامع لحسن أوريد طهرانيٌّ بدوره، إذ يحاكم جميع الأنظمة العربية ويسفه النخب والأحزاب وكلّ الإيديولوجيات والسياسات وتجارب الحكم التي مر بها العالم العربي، تارة بالتشريح وكشف مواطن الداء والمقارنة بين الفكرة والمبدأ كثقافة قانونية وفلسفية، وبين الواقع والممارسة، فنفيد من هذه الثقافة مجردةً وموسوعية ومثالاً، تقابلها تارة أخرى، وتستبطنها نزعة إدانة، لا بل محاكمات بخطاب صُراح ممزوج بشعور من الخيبة والمرارة من وحي تجربة شخصية للمؤلف تجاه نظام ومرافق حكم وأفراد، وهذا أيضاً بعض إغواء الشعبوية!

الأكثر قراءة

كتاب النهار 12/3/2024 2:05:00 AM
إسرائيل تضع "حزب الله" أمام خيارين: القبول بهزيمة مطلقة مما يضطره إلى التنازل عن فاعلية جناحه العسكري أو العودة إلى الحرب وتكبد ليس المزيد من الخسائر في لبنان فحسب، بل ما تبقى له من نفوذ في سوريا أيضاً....
دوليات 12/3/2024 8:35:00 AM
الهندسة القمرية الحرجة التي شهدتها السماء في الفترة من 1 إلى 2 ديسمبر/كانون الأول قد تؤدي لزلزال قوي اليوم الثلاثاء

اقرأ في النهار Premium