أفلام عدة شقت طريقها إلى مهرجان "أجيال" السينمائي في الدوحة (16- 23 الجاري)، من تلك التي تحض الشباب على التفكير. فهذه التظاهرة السينمائية التي قدّمت دورتها الـ12 هذا العام، تأسست على فكرة مخاطبة الشباب وبث الوعي (السياسي؟) في داخلهم من خلال لغة الصورة والمضامين التي تحملها.
من جملة ما عُرض طوال الأيام الثمانية: "ماء العين" (دعمته مؤسسة الدوحة للأفلام - منظّمة المهرجان) للمخرجة التونسية الشابة مريم جعبر التي تواصل استكشاف موضوع الراديكالية الدينية في تونس ما بعد ثورة الياسمين، حيث شهدت البلاد انضمام آلاف الشباب إلى تنظيم "داعش" الإرهابي تحت لواء الجهاد. هذه القضية سبق ان طرحتها جعبر في فيلمها القصير "أخوان" (2018)، الذي وصل إلى ترشيحات الـ"أوسكار"، لكنها في "ماء العين" تعيد تناولها برؤية جديدة وأسلوب سينمائي مختلف.
"ماء العين" الذي عُرض في مسابقة الدورة الماضية من مهرجان برلين السينمائي، يحكي قصة شاب عاد إلى قريته بعدما ضل طريقه، مصطحباً معه فتاة سورية حاملا. وصوله يفجّر التوترات داخل أسرته، حيث يجد نفسه وسط معضلات أخلاقية وقانونية. والده يرفض بقاءه خشية الملاحقة الأمنية، بينما تحاول أمه التوفيق بين مشاعرها كأم ورغبتها في معرفة الحقيقة، خاصةً ما حدث لأخيه القتيل. نغوص في علاقات معقّدة، في ظل أجواء يسودها التوتر والخوف، وكأن الماضي لا يزال يطارد الجميع.
البيئة الريفيةعنصراً درامياًيعكس العزلةوالاضطراب.
بينما انشغلت السينما التونسية في السنوات الأخيرة بمسألة التطرف وما خلّفه من تروما لا سيما عند الأهالي، يبرز هذا العمل بنهج فني يعيد صياغة المأساة بلغة أكثر جرأةً وتفرّداً. ربما لأن جعبر تنطلق من تجربة شخصية صادقة، كما تروي في ملف الفيلم الصحافي، إذ استلهمت الفكرة من قصّة شقيقين ريفيين تركا عائلتهما للالتحاق بصفوف الجهاديين. يعود أحدهما بعد حين، منهكاً وموصوماً بالخيبة، بينما يظل الآخر جثّة هامدة في ساحات حرب لا تمتّ الى شؤونه بصلة.
تحكي جعبر عن بداية الفكرة: "في شباط 2017، كنتُ في رحلة برية شمال تونس مع المصور السينمائي فنسان غونفيل (الذي صوّر الفيلم). عشتُ معظم حياتي في الولايات المتحدة، لذا كنت متحمّسة لاستكشاف وطني، خاصةً المناطق الريفية. خلال الرحلة، التقينا بالأخوين مالك وشاكر المشرقي اللذين يؤديان دوريهما في الفيلم، كانا يرعيان أغنام والدهما، ولفت انتباهي مظهرهما الغريب وغير المعتاد في تونس، بشعرهما الأحمر ووجهيهما المليئين بالنمش. رفضا التقاط الصور، لكن المعلومة التي صدمتني أكثر كانت ان هذه المنطقة شهدت بعد الثورة مغادرة عدد كبير من الشباب للانضمام إلى "داعش". كان الأمر محيراً بالنسبة إليّ: كيف يمكن لأشخاص من بيئة ريفية بسيطة ان يجدوا مبرراً للانخراط في صراعات بعيدة كلّ البعد عن واقعهم؟".
هذا التساؤل فتح الباب أمام محاولة أولى لرصد الجانب الإنساني للظاهرة، خاصةً العائلات التي تعاني الفقدان والحسرة نتيجة توجهات أبنائها وخياراتهم. في ذلك الوقت، كان هذا الموضوع لا يزال من المحرمات؛ الجميع يتحدّث عن ضحايا الإرهاب، لكن قلّة تناولت أولئك الذين انضموا إلى التنظيمات المسلحة، ناهيك عن أحوال عائلاتهم البائسة.
تختار جعبر تقديم القصة من منظور سينمائي خالص، بعيداً من التفسيرات السياسية أو الاجتماعية المباشرة. الفيلم لا يقدّم سرداً توثيقياً، بل يركّز على البعدين العاطفي والإنساني داخل عائلة مزقتها التناقضات والندم. في إطار بصري مذهل، تستخدم المخرجة البيئة الريفية كعنصر درامي يعكس العزلة والاضطراب الداخلي للشخصيات. في رؤيتها نضج واضح، يتجلى في التفاصيل الجمالية من إضاءة وتكوين المَشاهد، في حين ان النص يضيء على قضايا ثقيلة كالعار والذنب في مجتمع ريفي. العمل في مجمله لا يقدّم إجابات مبرمة، لكنه يدعو المُشاهد الى التأمل في تعقيدات الحياة العائلية في ظلّ التطرف، مقترحاً تجربة سينمائية مكثّفة وملهمة.
الأم في مواجهة الابن.