يعود المهرجان بدورته العاشرة ليُرسّخ مكانته: منصّة ثقافية للحوار والإبداع في وجه المآسي. عروض سينمائية، معارض فنّية ولقاءات، تُعقد جميعها رغم الألم وقلّة اليقين بالاستقرار، تحت مظلّة مهرجان بات علامة فارقة على الساحة اللبنانية وحتّى العالمية، يتطلّع إلى المستقبل ويرسّخ رسالة الثقافة.
الحدث الذي يُقام على مدرج ليلى تركي في المكتبة الشرقية – مونو، بمشاركة معهد الدراسات المسرحية والسمعية المرئية في جامعة القديس يوسف، لا يكتفي باستعراض الجماليات الفنية فحسب، بل يُلامس قضايا مصيرية تعيد تسليط الضوء على تجربة اللبنانيين مع الحرب وآمالهم في السلام.
من بيروت، المدينة المثقلة بهموم شعبٍ اختبر الويلات، يُقدّم المهرجان نافذة تطلّ على أعمال 25 مخرجاً وفناناً لبنانياً وعالمياً، مُجسّداً رحلةً تمتدّ من شانديغار إلى لندن، ومن سان باولو إلى برلين، ومن كوبنهاغن إلى بغداد، ومن بروكسل إلى طرابلس، ومن برلين إلى مدريد، ومن وارسو إلى مكسيكو، ومن جنيف إلى بنوم بنه، ومن ميلانو إلى طوكيو، ومن باريس إلى جبيل، في مواجهة خمسين عاماً من الأزمات التي حفرت أخاديدها في الذاكرة الجماعية اللبنانية، يُعيد هذا الحدث صياغة رسالة الأمل عبر عدسات الكاميرا وأصوات الفنانين.
"أوقفوا الحرب"
حاول "مهرجان بيروت للأفلام الفنية" عبر سنواته العشر أن يستمرّ ويتقرّب من المجتمع والجمهور. بعد انفجار المرفأ، كان أوّل مهرجان ثقافي يُقام في لبنان، "فتحنا مسرح مونو، وأقمنا المهرجان على رغم انتشار كوفيد-19 والإغلاق"، تستذكر مؤسِسَة المهرجان ورئيسته أليس مغبغب في حديث لـ"النهار"، "مستمرّون وباقون، وهذه السنة حملنا الحرب على أكتافنا وفي صدورنا". تسأل: "لماذا الثقافة إذا لم نكن قادرين على رفض الأمر الواقع وقول ماذا نريد؟ أين الذين يعملون في حقول الثقافة؟ مين طِلِع صوته؟ من قال لا نريد الحرب؟".
يوم عُقد المهرجان مؤتمره الصحافي العام الماضي، كانت الحرب في قطاع غزة قد بدأت بالفعل، "قلنا جهراً إنّنا لا نريد الحرب في لبنان؛ لم يسمعنا أحد ولم يجب أحد"، تقول مغبغب. عاد المهرجان هذا العام وأطلق شعار "أوقفوا الحرب". نسألها عن دور المثقّف في هكذا أوقات، "مثقّفو لبنان عليهم أن يحملوا شعارات الناس وصوتهم، لا أن يختبئوا أمام أول رصاصة. يوم الافتتاح جاءنا أشخاص سيراً من محيط الجامعة الأميركية إلى المكتبة للمشاركة بالمعرض. كبار، صغار، شيوخ... كم كان جميلاً افتتاح هذا المهرجان! إِجِر بالحرب وإِجِر بالسلم".
على مشارف الذكرى الخمسين للحرب الأهلية اللبنانية، تؤكّد مغبغب "أنّنا لم نتأقلم مع الحروب ولن نتأقلم معها". المهرجان بات محطة سنويّة تتوسّع أكثر فأكثر لتشمل المدارس ومناطق عدّة على مساحة الوطن، وتريده هذا العام أن يقول "إنّنا نرفض الحرب ولا نريدها. مهرجاننا وسيلة لإعلاء صوت الثقافة وأصوات الفنانين، أولاد الثقافة والسلم".
"الثقافة تجمع"
استقطب المهرجان هذا العام عدداً أكبر من الأفلام اللبنانية مقارنة بالسنوات السابقة، وقد افتتح برنامجه الذي يضم 25 فيلماً غير تجاري بعرض وثائقيَّين هما "لبنان، أسرار مملكة بيبلوس" لفيليب عرقتنجي، و"سيلَمَا" لهادي زكاك. لاحظت مغبغب أنّ الوثائقيات التي تتناول تراث لبنان وفنّه وذاكرة أبنائه الجماعية كثرت مؤثراً. تُخبر "النهار" كيف بات لـ"مهرجان بيروت للأفلام الفنّية" دور ومكانة في لبنان وحتى العالم، إذ إنّه الوحيد الذي ليس عبارة عن مسابقة إنما لقاءات فنّية بامتياز، وقد واجه الموت واليأس ولا يزال يقدّم فسحة جمال فيما كلّ شيء تصدّع حولنا، في السنوات الأربع الماضية.
"يُخبر المهرجان، عبر نضال الفنانين ومواجهتهم صعوبات الحياة، قصة المجتمع"، تقول مغبغب، "وهو نموذج للذين يريدون المواجهة والاستمرار وحماية الذاكرة والتاريخ". بالنسبة إليها، "ثمّة مواهب جديدة ذات ثقل في السينما اللبنانية، والمخرجون يصبّون تركيزهم أكثر فأكثر على مواضيع التراث والذاكرة، ربّما لأنّ اللبنانيين لم يجتمعوا مع بعضهم في السنوات الثلاثين الماضية". ترى أنّ "السياسة فرّقت اللبنانيين وقسمت البلد، والتاريخ والثقافة وحدهما يجمعان. ربّما لهذا لم يُكتب كتاب تاريخ مدرسي موحّد في لبنان".
تحرير الأفكار من النمطيّة
لا تتخوّف مغبغب على لبنان "طالما لديه مخرجون شباب مقتنعون بأهمّية التراث ويسلطون الضوء عليه بثقافة وجهد وتعب". ما تتخوّف منه فعلياً هو "ابتعاد الجمهور نحو الأشياء البعيدة عن الثقافة". غير أنّها تؤكّد أنّ ما يميّز هذه الدورة من المهرجان هو "استمراريّته فيما لقاءات ثقافية أخرى لم تعُد تُعقَد، ومشاركة شريحة كبيرة من الشباب في فعالياته".
تريد مغبغب من الأفلام التي يعرضها المهرجان والبرامج السنويّة "تحرير الأفكار من الصور التي فُرضت على اللبناني". تخبر كيف أنّ الجمهور اكتشف العام الماضي أنّ طرابس كانت تضمّ 40 صالة سينما، عبر المعرض الذي نُظّم في المكتبة الشرقية والفيلم الذي عُرض. "اللبنانيون تشرّبوا صورةً طوال هذه السنوات أنّ طرابلس مدينة مليئة بالمشاكل"، تقول، "غير أنّها جميلة وغنية وتراثها جميل، ومن خلال سلسلة لقاءات "طرابلس جوهرة على المتوسط"، سلّطنا الضوء عليها. للأسف لم يقم الرسميّون والدولة بأي شيء لمدينة طرابلس التي صُنّفت عاصمة ثقافية للعالم العربي".
هذا العام، كانت التحديات أمنيّة بشكل رئيسي. تطلب مغبغب من الجمهور اللبناني أن يكون "حشّوراً" ويسعى وراء الثقافة ولقاءاتها. "هذا المهرجان ليس مجموعة حفلات"، تؤكّد، "إنّما لقاءات ثقافية حول ثقافات العالم والثقافات اللبنانية. الثقافة لغة عالمية، لغة الإنسان، لا يمكن أن تغيب عن مجتمع وتظهر في مجتمع آخر. الحدود اخترعهتا الدول، إنّما الإنسان اخترع الفن... هنا تبرز قيمته".