مع الهدنة التي تسود أَخيرًا في بيروت وجنوب لبنان بعد حرب الأسابيع الأَخيرة، تجمُلُ الإِضاءَة على هذه المدينة/العاصمة ذات التاريخ العريق والتراث العبيق. لذا اخترتُ لهما هنا كاتبَين من بيروت يضيئان على عاداتها وتقاليدها بما يثير الحنين إِلى هاتيك الأَيام التي شكلت بيروت زنبقةً جميلة على خصر المتوسط.
في البال يا بيروت
يَعْذُبُ الحديثُ عن بيروت في كتابات الرحّالة والمؤَرّخين. لكنه يَعْذُبُ أَكثر حين يَصدُر عن ابن بيروت يروي ذكرياتِهِ طفولةً وشبابًا، ومشاهداتِهِ أَيامَ كانت بيروت قريةً مُـميَّزةً بشوارعَ وأَزقةٍ وبيوتٍ ذاتِ شرفاتٍ وحدائقَ ونوافير، وبيارتةٍ ذوي عادات وتقاليد من أَطيب التراث اللبناني.
تلك حال ابن بيروت المخرج المسرحي والإِذاعي محمد كريِّـم وكتابِه النوستالجيّ الجميل "في البال يا بيروت"، وهو يضمُّ سبعة فصولٍ تتنافس ذكرياتٍ نوستالجية. وكلُّ ذكرى تتباهى بأَنها الأَحلى.
في مقدِّمة الكتاب لوجيه فانوس أَنّ "بيروتَ الرائعة في التاريخ والحاضر ووعد المستقبل، بيروتَ درَّةَ تاج مُدن الأَبيض المتوسط، المخْلصةَ لتراث ناسها المؤْمنين بأَرضها، تُطلّ بكل بهائها من بال ابنها محمد كريِّـم السابحِ في بحار هواها والعارف بأَسرار عشْقها".
بعدَ المقدمة يبدأُ المشوار إِلى بيروت التي وضع محمد كريِّم كتابَه عنها "كي لا تموتَ مدينتي من البَرد، وحاولتُ أَن أَسترجع من الذاكرة نماذج من تراثها الشعبي لتكونَ مرآةً تعكِس صورةَ مدينةٍ أَحَبَّها كلُّ من عاش فيها، وكلُّ مَن تَفَتَّحَ وعْيُهُ عليها ففتَّحَت وعيَه على الدنيا".
الأَمثال والحكايات في بيروت
يبدأ الكتاب من مخزون الذاكرة عن أَيام الحرب العالمية الثانية وأَجواءِ بيروت خلالَها ملجأً وإِعاشةً وعسكرَ حلفاء بين سنغالي وأُسْترالي، وحكاياتِ الأُنس والجنّ، مرورًا بمظاهرَ بيروتيةٍ شعبية، من علاماتها صندوق الفرجة "تلـﭭـزيون تلك الأَيام" وما كان له من رواجٍ بين أَولاد البلد، وطبلِ الزغلول في مناسبات البيارتة، و"أَربعاءِ أَيوب" على رمال شاطئ بيروت تَيَمُّنًا بالنبي أَيوب، وُصولًا إِلى حلاَّقي بيروت الـمُتجوّلين بِـعُـدَّتهم من بابٍ إِلى شارعٍ ومن حَيٍّ إِلى حيّ، بُلُوغًا إِلى المظاهر الدينية بين النُّذور وأَجواء رمضان صيامًا وسُحُورًا فإِمساكًا، وفرحةِ العيد عند حرش العيد في حرش بيروت.
ومن القضايا البيروتية: النضال السياسي والوطني ضدّ الانتداب الفرنسي إِضرابات وتظاهرات، وتلقّي المؤلف الثقافةَ الموسيقية على الأَخَوين محمد وأَحمد فليفل عتابا ومواويلَ ومدائحَ وموشَّحاتٍ، وموسيقى كلاسيكيةً من "فونوغراف حلّاق الحي".
وتتوالى في فصول الكتاب أَماكنُ عدةٌ بِـحَنينِها وأَجوائها: من أَحياءَ بيروتيةٍ لا تتجاوز العشرة تربط بينها قادوميّات ضيّقة، إِلى البحر الذي يَبعُد خطواتٍ عن البيت، وصولًا إِلى سوق سرسق عريس الأَسواق بين سوق النحّاسين والمنجّدين والحدّادين وسوق الطويلة وسوق أَياس وسوق البزركان وسوق أَبو النصر، وسواها من معارض البضائع والسِلَع. وبين جلَبَة السوق فونوغرافٌ نقّال يُذيع لعبدالوهاب "إِيمتى الزّمان يِسمَح يا جميل"، وُصُولًا إِلى بحر بيروت وأَخباره، وملامحِ شخصياتٍ بيروتية منها أُمّ جرجي وعبدالرحمن وشريكه محمود والبارون بيزانت الأَرمني "خيّاط ذوات البلد وباشوات الأَقطار العربية". وأَخبار كثيرةٌ يَرويها كتابُ محمّد كريِّـم "في البال يا بيروت" بإِيقاعٍ روائيٍّ سَلِسٍ متسلسِلٍ طيّبِ النكهة لذيذِ الوقْع، من أَيام بيروت الغالية بكلّ ما فيها من قمَر بيروت وأَهل بيروت وليالي بيروت النابضةِ حَيَويَّةً وشمسًا ذهبيةً لا تَدْنَقُ ولا تغيب حتى حين يَـحينُ كُلَّ يومٍ موعدُ الغروب.
أحوال التقاليد في بيروت
من بيروت إلى البيارتة
"البيارتة" صيغةُ جمعٍ أَكثرُ انتشارًا من أَخْذه بـــ"الواو والنون" كـ"الدماشقة" عن الدمشقيين و"البغادنة" عن البغداديين والمشارقة والمغاربة والغساسنة والمناذرة سواهم. و"البيارتة"، تحديدًا، جمعُ كلِّ بيروتي مولدًا وموطنًا ومسكنًا ومقامًا ومنزلًا وحتى هوًى. فبيروتُ التي لم تَعرِف التعصُّب الطائفي أَو المناطقي أَو المذهبي أَو الطبقي شكَّلَت قِـــيَــمَـها العالية وَفَرَضَتْها على كل وافدٍ حتى قيل إِنّ "البيروتية هوية"، لأَن البيروتي، بقدْرما يُحقّق تلك القِيَمَ العليا، يحقُّ له أَن يُعتَبَر من البيارتة، وإِلا فهو خارجهم.
هذا المقطعُ وَرَدَ في تقديم المحامي عبداللطيف فاخوري كتابَه "البَيَارتة... حكاياتُ أَمثالهم ووقائعُ أَيامهم"، وهو ضمَّ إِلى النص الجميل وثائقَ وصُوَرًا ورُسومًا بيانيةً وأَشجارَ عائلاتٍ بيروتيةٍ أَصلًا وفصلًا وأَنسابًا.
ينطلق المؤَلّف من كون بيروت قلعةً ورباطًا ساحليًا بين الداخل العربي وسائر الأَقطار الأَجنبية، ومرفأً ًتجاريًا كرّس تقاليدَ وأَعرافًا، ومدينةً للتسامُح والتعاوُن، ومركزَ علْمٍ وفقْهٍ وقانون، منذ مدرسة الحقوق الرومانية، مرورًا بتعاليم الإِمام الأُوزاعي، وبُلُوغًا نهضتَها العلْمية والأَدبية في القرن التاسع عشر، منارةً حضارية لسائر الشرق.
ويكشف الكتاب لُـمَحًا من الثقافة الشعبية العامة، وحوادثَ تاريخيةً واجتماعيةً وثقافيةً وفنية، وأَمثالًا وكناياتٍ وحركةَ اصطيافٍ وسياحة، وأُصولَ بعض العائلات البيروتية، ومعلوماتٍ جديدةً عن نُشوء الأَعمال المصرفية في بيروت، وعن أَعمال البِرّ والخير والمعروف، وبياناتٍ للأَحوال القضائية والقانونية والأَمنية، وقضايا شهيرةً تردَّدَت في حينها، وأَعرافًا وتقاليدَ بيروتيةً سادَت في عصرها، وأَحوالَ أَصحابِ المهن الحُرّة والتجّارِ والحِرَفيّين وأَهلِ التصوُّف، وأَعرافًا وأَساطير مجهولةً تردَّدَت في القصص والروايات والأَمثال، وطرَّزَ المؤَلّف صفحاتِ كتابه الغنيةَ بقصائِدَ وأَبياتٍ جَرَت غالبًا مَجرى الـحِكَم والأَمثال على أَلسنة البيارتة.
تصميم الكتاب واضحٌ: الأَمثال وما إِليها، متسلسلةً على الأَحرف الأَبجدية، من حرف الأَلِف ابتداءً من مثَل: "إِبن حلال كنا بسيرتك" إِلى حرف الياء ختامًا بِـمَثَل: "يـي عليكم يا بيت عـزّ الدين"، ضامًّا على هذا النحو السائغ مئاتٍ من الأَمثال، بعضُها بالفصحى والآخَر بالمحكيّة العاميّة كما تَـتَداولُها الأَلسن والذَّاكِــرات.
زنزوقة العيد في بيروت
وفي ثنايا الكتاب صُوَرٌ لـمشاهدَ ومناسباتٍ ووثائقَ شرعيةٍ وقانونيةٍ وعائليةٍ قديمةٍ وإِعلاناتٍ تجاريةٍ وصحافيةٍ طريفةٍ وكاريكاتور من أَيام زمان، وسيّداتٍ بيروتياتٍ رائداتٍ ورجالٍ بـيارتةٍ من ذاك العهد الذهبي، حتى ليمكِن القول إِنّ هذا الكتابَ مدينةٌ كاملةٌ بين دفتين. وواضحٌ جهدُ عاشق بيروت وجامع تراثها المحامي عبداللطيف فاخوري في الجمْع والتقميش والتدوين والتنسيق، والانصرافِ الدَّؤُوب إِلى إِعداد هذا السِفْر البيروتي النادر.فكتابه ذاكرةٌ نابضةٌ تُبقي عبَقَ بيروت أَرَجًا شعبيًا وحضاريًا دائمًا يجعل بيروتَ مدينةَ مُدُن لبنان وجوهرةَ مدائنه.