أكثر من فضاء غير مطروق في عالم الشعر المسرحي العربي يخوضه الكاتب والباحث عبد السلام فاروق في أطروحته المهمة "المسرح الشعري – نحو نظرية جديدة"، التي صدرت حديثاً في 370 صفحة من القطع الكبير، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب (القاهرة، 2024).
في عمله الموسوعي، يتصوّر عبد السلام فاروق وجود مناطق جديدة في مجال المسرح الشعري لم يجرِ اكتشافها بعد، هادفاً إلى استجلاء شيء منها، وفتح الباب واسعاً أمام المزيد من الدراسات في ذلك المجال الرحب.
ويفترض الباحث أيضاً أن المسرح الشعري موجود دائماً، وأنه يتطور، على الأقل في ما يخص النصوص الأدبية، ساعياً إلى متابعة هذه الحركة، ومتسائلاً: هل هي حركة إلى الأمام دائماً، أم ينتابها في طريقها بعض البطء والتعطيل؟
ويذهب فاروق إلى أن هناك أزمة تعترض سبيل المسرح الشعري، كما تعترض غيره من أنواع المسرح وصنوفه. وهي أزمة قديمة تفاقمت، ليس في المسرح الشعري وحده، بل في منظومة المسرح بأكملها. ويعمل الباحث المصري على استقراء تفاصيل هذه الأزمة، وتفنيد أسبابها وملابساتها.
أما غاية ما يصبو إليه المؤلف، فهي إمكانية تجاوز أزمة المسرح الشعري، وذلك بصياغة مقترحات وتوصيات عملية قابلة للتطبيق، ربما تسهم ولو قليلاً في إقالة حركة المسرح الشعري من عثرتها المؤقتة، على المستويين: الأدبي (الكتابة والنقد)، والفني (الإخراج المسرحي).
إن المسرح الشعري، على ما يزخز به من تجارب، وما مر به من مراحل نهضت به وطوّرته، قد صار في مفترق طرق. وعليه، فإن الحاجة باتت ملحّة، لا للمزيد من النصوص، بل لتشكيل "نظرية جديدة تتناول فن المسرح الشعري بالتحديث".
وتتحرك هذه النظرية على أرض الواقع من أجل تفجير طاقات الإبداع لدى الأدباء والشعراء والمبدعين في اتجاهات عدة "تختلف في جوهرها وبنائها وأدواتها عمّا عهدناه من شكل مسرحي بات ينتمي إلى الماضي، مهما انتسب إلى اتجاهات نسمّيها حديثة، وهي ليست كذلك".
خط درامي تاريخي
وفي سبيل إطلاقه دعوته المثيرة، لكل الشعراء والنقّاد العرب، للتجريب والبحث والتصويب، حتى الاهتداء إلى مثل تلك النظرية، التي "قد تمثّل فتحاً هائلاً في الإبداع المسرحي والأدبي"، ينتهج عبد السلام فاروق في كتابه خطاً درامياً تاريخياً تصاعدياً، لبلورة ملامح هذه النظرية الجديدة للمسرح الشعري، ووضع إشارات دالة إلى خطوطها العريضة، ومحدداتها الأساسية.
يغوص الباحث عميقاً لتقصّي جذور الشعر المسرحي، المسمّى أحياناً "المسرح الشعري"، عالمياً وعربياً، وذلك لفهم الظاهرة وتشكلاتها منذ البداية، وصولاً إلى رصد مشكلاتها الراهنة، وحلها. ويذهب إلى أن المسرح قد نشأ في الأصل مسرحاً شعرياً ملحمياً، متفقاً في ذلك مع المسرحي أبو العلا السلاموني، الذي يُرجع نشأة الدراما إلى مبدعي الاحتفالات الدينية للإله الإغريقي ديونيسيوس "إله النشوة"، حيث الغناء والإنشاد والعزف والرقص، وفق أوزان خاصة، وإيقاعات صاخبة.
ومن هؤلاء المحتفلين، الشاعر الإغريقي "أريون"، أشهر عازف مزمار في ذلك الوقت. وقد ارتجل أجزاء حوارية مع أفراد فرقته الغنائية في أحد الاحتفالات الدينية، وصعد إلى المنصة التي أصبحت تلقائياً خشبة المسرح في ما بعد، وأخذ يتبادل الحوار مع الجماهير. وبذلك، وُضعت البذرة الأولى لفن الدراما، كما يقول أرسطو.
ويلتقي عبد السلام فاروق أيضاً مع الناقد والمترجم محمد عناني الذي يفيد في كتابه "دراسات في المسرح والشعر" بأن "المسرح الشعري" تعبير حديث، فالأصل في المسرح أن يُكتب شعراً، وتراث أوروبا المسرحي هو تراث شعري، والقدماء يسمّون المسرح "الشعر المسرحي". ولكن الحاجة نشأت إلى تعبير "المسرح الشعري" مع نشأة "المسرح النثري" في القرن التاسع عشر، للتمييز بين النوعين.
حلقات التطور
أما في الأدب العربي، فمعروف أن المسرحية الشعرية قد ظهرت للمرة الأولى في العصر الحديث، في إطار الحركة الكلاسيكية، وبعد انحسار المسرح الشعري الأوروبي. وكان الإرهاص الأول مأساة الشاعر اللبناني خليل اليازجي (1856-1889) بعنوان "المروءة والوفاء" التي تتجاوز ألفي بيت، والمقتبسة أحداثها من الأدب الجاهلي والقصص القديمة لدى العرب.
وظهرت بواكير الدراما الشعرية وسمات المسرح الشعري الأكثر نضجاً لدى الإحيائيين، فكانت مسرحيات أحمد شوقي الرائدة الشهيرة "مصرع كليوباترا" و"مجنون ليلى" و"قمبيز" و"الست هدى". واستمرت حلقات التطور على أيدي الأجيال اللاحقة، ومنهم عزيز أباظة صاحب "قيس ولبنى" و"العباسة" و"الناصر" و"شجرة الدر" و"غروب الأندلس" وغيرها، وعلي أحمد باكثير صاحب "سر الحاكم بأمر الله" و"سر شهر زاد" و"مأساة أوديب".
أما التطور الأكثر جدية واستيعاباً لمفهوم الدراما وعناصر المسرح، في حركة المسرح الشعري العربي، فكان مع شعراء قصيدة التفعيلة "الشعر الحر"، ومن أبرزهم صلاح عبد الصبور (مأساة الحلاج، مسافر ليل، الأميرة تنتظر، ليلى والمجنون، بعد أن يموت الملك)، وعبد الرحمن الشرقاوي (الحسين ثائراً، الفتى مهران، جميلة، النسر الأحمر، عرابي، الحسين شهيداً)، ونجيب سرور (ياسين وبهية، منين أجيب ناس)، وفاروق جويدة (الوزير العاشق، دماء على ستار الكعبة، الخديوي).
وتضاف إلى هؤلاء أيضاً تجارب الشعراء: أحمد سويلم، محمد إبراهيم أبو سنة، محمد مهران السيد، وليد منير، محمود نسيم، محمد فريد أبو سعدة، محمد سليمان، وفاء وجدي، عزة راجح، حزين عمر، وغيرهم.
مستقبل المسرح الشعري
واستناداً إلى تلك المحطات المبشّرة في مسيرة المسرح الشعري العربي في مراحله المزدهرة، وبالنظر إلى ما يعانيه المسرح الشعري حالياً، والمسرح عموماً، من تراجع نسبي وتكلس وجمود، يلتقط عبد السلام فاروق خيوط الأزمة الراهنة، لينسج آماله المستقبلية بشأن مسرح شعري مغاير، أكثر طليعية، مدعوم بنظرية جديدة في المسرحة.
ويرى الباحث المصري أن أهم ما يحتاج إليه المسرح الشعري هو التحرر من آفة الاعتماد الكلي على الفكرة أو الموضوع أو الذهنيات المجردة. فالعرض المسرحي الحي يتعلق بالإخراج والسينوغرافيا والأداء التمثيلي والدراماتورج.
ومؤلف المسرح الشعري يجب أن يكون على دراية بأدوات العرض الدرامي وآلياته، لكي يُحكم التصور والبناء. كما يجب أن يُلمّ بالبُعد الثالث في الكتابة المسرحية، وهو البُعد الذي يتيح تصوّراً مجسّماً لما يمكن أن يكون عليه العرض الدرامي.
ومن أخطر عيوب المسرح الحالي أن المؤلف قد يهمل ذلك البُعد الثالث، اعتماداً على المخرج والدراماتورج، متناسياً أنه المسؤول الأول عن المسرحية، وأن تصوره الدرامي هو التصور الرئيسي الذي ينبني عليه العمل ككل.
وهنا تأتي ضرورة أن يكون الشاعر مؤلف العمل المسرحي ملماً بسينوغرافيا المسرح، ولديه إحاطة كافية بإمكانات المسرح الذي قد يستقبل عمله الدرامي، من حيث الإضاءة والصوت والديكورات والمناظر، بحيث يضع تصوراته في حدود تلك الإمكانات، ويدرك أن النص هو جزء من مشروع أكبر، هو العرض الدرامي، بكل ما يشتمل عليه من تكاليف وتجهيزات وأعمال وعمّال وممثلين ومنتج ومخرج ووقت كافٍ للبروفات، حتى يكتمل العمل.
أمر آخر يلفت إليه النظر عبد السلام فاروق في إطار النظرية الجديدة للمسرح الشعري، هو أن المسرحية الشعرية بإمكانها مواصلة التعبير عن الهوية الوطنية، ولكن ليس من خلال قضايا سياسية زاعقة أو جدلية متقعرة أو ميتافيزيقية معقدة، بل بواسطة موضوعات أبسط، تجسّد الإنسان الشعبي والواقع والتراث.
وهنا يفرّق فاروق أيضاً بين التمسك بالجذور وإحياء التراث كفضيلة مطلوبة في العروض الجديدة، وما يجري في الكثير من العروض المسرحية البائسة التي تقتات على الماضي وتستمسك بمضامين وثيمات وأشكال كادت تنقرض من نصف قرن، موضحاً بقوله "الأَوْلى أن يكون السائد لدينا هو الفن الذي يدفعنا نحو الغد، لا الذي يرتد بنا إلى الأمس البعيد".