«السكين»، هو الحدث الأدبي الأهم هذه الأيام في فرنسا، فهو عنوان كتاب سيرة ذاتية جديدة للكاتب الهندي البريطاني سلمان رشدي، نُشر قبل أيام في لندن عن "جوناثان كيب"، ويصدر اليوم عن "غاليمار" مترجماً إلى الفرنسية.
في آب (أغسطس) 2022، وبينما كان على وشك بدء محاضرة في معهد تشوتاوكوا في مدينة نيويورك، تعرض رشدي لهجوم من رجل اندفع إلى المنصة وطعنه طعناً متكرراً، في مستوى الرقبة والبطن، ليفقد البصر في إحدى عينيه ويعجز عن استخدام إحدى يديه، لكنه نجا من محاولة القتل. يعود رشدي في كتابه إلى اللحظات الأخيرة، قبل الهجوم، ثم يغوص في أعماق الحكاية عائداً إلى جذورها التي تمتد إلى عام 1989، عندما أصدر قائد الثورة الإسلامية الإيرانية آية الله الخميني، فتوى تبيح دمه.
يطرح سلمان رشدي تساؤلات إنكارية على نفسه: "لماذا لم أدافع عن نفسي؟ لماذا لم أهرب؟"، معترفاً بخجله من بقائه بلا حراك ولا حول له ولا قوة في مواجهة مهاجمه، من دون أن ينسى فضل هنري ريس، المتحدث الذي كان سيتحاور معه والذي لم يتردد في إلقاء نفسه على المهاجم ممتناً بالقول في المطلع: "لولا هنري والجمهور، لما جلست هنا أكتب هذه الكلمات".
ربما كان عجز رشدي عن الدفاع مرده إلى رحلة انتظاره الطويلة لتلك اللحظة منذ 1989، ذلك العام الذي انقلبت فيه حياته رأساً على عقب، مشيراً إلى ذلك بالقول: "عندما يُلحق بك شخص ما خمس عشرة طعنةً، يصبح الأمر بالتأكيد مسألة شخصية للغاية (...) لقد حدث لي شيء ضخم وليس خيالياً على الإطلاق (...) كان لدي الوقت للتفكير والقول في روعي: إذاً، هذا أنت. أنت هنا، لماذا الآن، فالشخص الذي أراه آخر مرة بعيني اليمنى، كان لدي الوقت لتخيله لمدة ثلاثة وثلاثين عاماً ونصف عام، يقفز مثل صاروخ عفّى عليه الزمن، وفي سبع وعشرين ثانية، يوجه إلي القاتل الفاشل عشرات الطعنات". فهذا العجز هو وليد الذهول، ووليد أفق الانتظار الذي طال، حتى تحوّل فيه رشدي إلى أسيرٍ لهذا الانتظار. وما يعزز هذا الشعور، هو ما يرويه رشدي نفسه من كونه قد عاش كابوساً فظيعاً قبل ليلتين من الحادثة، حين هاجمه في منامه رجل مسلح برمح في ما يشبه المدرج. وعندما استيقظ فزعاً قال لزوجته الشاعرة، راشيل إليزا غريفيث: "لا أريد أن أذهب".
يعيش رشدي تحت تهديد الاغتيال منذ عام 1989، بسبب روايته الرابعة "آيات شيطانية"، ما اضطره إلى الاختباء لسنوات. قبل سنوات تعرض هيتوشي إيغاراشي الذي ترجم كتاب "الآيات الشيطانية" إلى اللغة اليابانية، للطعن حتى الموت، كما تعرض مترجم الكتاب الإيطالي إيتوري كابريولو للطعن مرات عدة في منزله في ميلانو. وعلى الرغم من أن الحكومة الإيرانية سعت في عام 1998 إلى النأي بنفسها عن الفتوى وتعهدت وقف المطالبة بتنفيذها، لكن في عام 2017، أكد المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي مجدداً أن الفتوة لا تزال ساريةً. وقد نشر رشدي مذكرات سابقة، تحت عنوان "جوزيف أنطون"، في عام 2012، والتي يروي فيها الفترة التي قضاها مختبئاً بعد نشر الآيات الشيطانية.
يقول رشدي إن السبب الذي دفعه إلى الكتابة، هو عجزه عن التجاوز: "لم أتمكن من كتابة أي شيء آخر. كانت لدي بعض الأفكار لكتب يمكنني كتابتها، لكنها بدت غبية. أدركت بسرعة أنه لن أستطيع أن أفعل أي شيء آخر (...) وفي تلك المرحلة، أصبح القيام بذلك أمراً ملحاً. بدأ الكتاب في البداية يتشكل ببطء شديد. ثم انهمر، كما لو أن شخصاً ما فتح سداً وهرب من الفيضان". وقد نُشر أحدث كتب رشدي، وهو رواية "مدينة النصر"، العام الماضي، لكنه كتب قبل الهجوم. وسيكون "السكين" أول كتاب يكتبه منذ حادثة الطعن.
يجمع الكتاب بين السرد الروائي والتأملات الشخصية، وربما التفلسف حول طبيعة النفس البشرية والعنف والوجود، وأحياناً التوثيق. فهو لا يخلو من المتعة، رغم أنه ليس بجودة المذكرات الضخمة التي نشرت عام 2012، ولا ببراعة رشدي في رواياته السابقة. يحافظ الكاتب فيه على مداومة التذكير بقيمة حرية التعبير ضد السلطة الدينية، من دون أن يشير كثيراً إلى بقية السلطات، لا سيما السياسية والاقتصادية. لكنه مع ذلك يبقى وفياً لنفسه، إذ لم تغير تجربة الاقتراب من الموت فيه الكثير من الأفكار، بل رسختها.
في بعض الأحيان يبدو الأمر، بالنسبة إلى رشدي، كما لو أن هناك افتراضاً بأن حرية التعبير ليس فيها مشاكل، وأنها توفر علاجاً سحرياً للمجتمع؛ أنه الخيار السهل والواضح. لكن سلمان رشدي يعرف أكثر من غيره، أن القدرة على قول ما تريد، عندما تريد، عن كل ما تريده تأتي مع صعوباتها الخاصة، ومسؤولياتها، ومع الكثير من القيود المرتبطة بها. وربما يجب أن يدفع المرء ثمنها باهظاً في حريته ووجوده.