أطلق شاعر العامية المصري الكاتب رامي يحيى، مبادرة لنقل كتب تراثية من اللغة العربية الفصحى إلى اللهجة العامية المصرية، بادئاً بـ"كليلة ودمنة".
وبرغم مواجهته انتقادات وتحديات متكررة خلال مشواره المهني الذي ألف خلاله 7 كتب بالعامية المصرية، ومع اعترافه الصريح بفضل العربية الفصحى كونها تشكل جسراً ثقافياً يربط العرب، إلا أن لديه قناعة راسخة بأن لهجة بلده تساعد في توصيل الأفكار والمعلومات إلى غالبية المصريين.
ويقول يحيى لـ"النهار العربي" إن ثمة تجارب شخصية وتحولات فكرية ساهمت في تكوين قناعته الشديدة بضرورة نقل "أمهات الكتب" العربية إلى العامية، معتبراً أن "هذا سوف يشجع الناس على القراءة، والاستيعاب بدرجة أكبر".
وأرجع الكاتب نجاح بعض الشخصيات المؤثرة في وجدان المصريين، خلال العقود الأخيرة، إلى استخدامهم العامية لتوصيل المحتوى الذي يقدمونه بطريقة سلسة وبسيطة، وضرب مثالاً بالشيخ عبد الحميد كشك، والشيخ محمد متولي الشعراوي، والداعية عمرو خالد، واليوتيوبر أحمد الغندور (الدحيح).
وقال: "هؤلاء نفذوا إلى قلوب المصريين، واجتذبوا أعداداً كبيرة من المتابعين، لأنهم استخدموا اللهجة العامية، وهذا بخلاف اللغة الفصحى التي يستخدمها غالبية المثقفين المشايخ والإعلاميين وغيرهم".
"جسر وسد"
يقول رامي يحيى إن تكوينه الفكري بُني مع اندماجه في التيار السلفي المتشدد في مرحلة مبكرة من طفولته وشبابه، ومن ثم نشأ مهتماً بالفصحى كجزء من نمط التدين الذي ينتهجه هذا التيار، وقد كان له صديق أميركي عاش في مصر لفترة، ثم دخل الإسلام لاحقاً، وكان يفهم العامية المصرية جيداً.
ويقول يحيى: "عندما تحول صديقي الأميركي إلى الإسلام، بدأ يقرأ فيه، وهنا صادفته إشكالية في فهم ما يقرأه بالكتب، لأنه بالفصحى. ولكون صديقي يعرف أنني كنت أنتمي لـ"أصول سلفية"، بادر بالاتصال بي كي أشرح له بعض النصوص التي لم يفهمها، وهنا أدركت لأول مرة أن ثمة إشكالية واختلافاً جلياً بين الفصحى والعامية".
ويضيف: "كنت أقرأ الكتاب بالعربية الفصحى، ثم أشرح له بالعامية، شعرت كأنني أترجم من لغة إلى أخرى. وهنا أدركت أن المصريين، ومن يستخدمون العامية مثل صديقي الأميركي، بحاجة لمن "يترجم" لهم من العربية الفصحى".
ويؤكد الكاتب أن "العربية الفصحى لها فضل كبير في تواصل الكتّاب العرب فكرياً، وتسهل لهم فهم ما يكتبه نظراؤهم في البلدان الأخرى. ولكي نلحظ هذا الفضل، يمكن أن نتخيل أن كل كاتب عربي كتب بلهجته المحلية، فماذا سوف يحدث؟ ربما يتعثر فهم ما يكتب على الأرجح".
لكن يحيى في الوقت ذاته، يرى أنه "مع أن الفصحى تعمل كجسر للتواصل بين الكتاب والمفكرين والنخب العربية، وتسهل فهمنا للكتب التراثية"، لكنها "تشكل سداً أمام توصيل المحتوى للعوام الذين لا يمكنهم أن يفهوا جيداً الفصحى وبعض كلماتها المهجورة".
أكتب كما أفكر
بعد تجربة يحيى مع صديقه الأميركي الذي تحول للإسلام، وملاحظته أنه حين يقرأ له من الكتب المؤلفة بالعربية الفصحى يضطر لشرح ما قرأه بالعامية المصرية، لأن صديقه تعلم اللهجة المصرية فحسب، بدأ الكاتب ينتبه لما يدور حوله، ويركز في هذا الأمر.
على مدار قرون مضت، ثمة محاولات مستمرة لنشر اللغة العربية الفصحى بين المصريين، فهي اللغة الرسمية المستخدمة في التعليم، وفي وسائل الإعلام، وفي المساجد والمؤسسات الدينية، وخطب الرؤساء والمسؤولين، وتتحدث بها النخبة المثقفة، ومع كل هذا لم تصبح الفصحى هي اللغة الدارجة بين عموم المصريين خلال حياتهم اليومية.
ويروي الكاتب تجربة أخرى كانت فارقة بالنسبة له: "كنت في أحد مكاتب البريد، ودخل رجل، وبدأ يتحدث مع موظفة المكتب بالفصحى، وقال لها: أريد طابع بريد يا سيدتي. نظر الناس إليه بذهول، وحاولت الموظفة أن تتمالك مشاعرها، لكنها انفجرت بالضحك، وعلت ضحكات كثير ممن كانوا حاضرين، عندها غضب الرجل، وواصل حديثه بالفصحى للتعبير عن اعتراضه على سخريتهم منه".
هذا الموقف مع ملاحظات أخرى دفعت يحيى ليفكر في تأليف أول قصة قصيرة باللغة العامية، وحين قدمها للناشر، أثنى عليها لكنه اعترض على كونها باللهجة العامية، وطلب منه أن يحولها للفصحى، فذهب الكاتب وحاول أن يعيد صياغتها، وحين قدمها له مجدداً قال: "هذا أسوأ عمل قرأته لك، الأفضل أن تبقى بالعامية، لكنني لن أستطيع نشرها".
يقول يحيى: "أتساءل لماذا نتحدث بطريقة ونكتب بأخرى؟ لماذا عليّ أن أفكر بالعامية ثم أبدأ في إعادة صياغة الكلمات بالفصحى؟ أريد أن أكتب مثلما أفكر".
مشروع ممتد
يتمنى الكاتب أن تنتشر مبادرته، وأن يبدأ العديد من الكتاب في نقل "أمهات الكتب" العربية من الفصحى إلى اللهجة المصرية، ويقول: "لقد بدأت المشروع الجديد، بمساعدة صديقتي نهى الإبياري. وحتى نصل إلى أكبر قدر ممكن من الجمهور المصري، قدمنا "كليلة ودمنة" في صورة حلقات على "يوتيوب"، أقوم أنا بنقل النص إلى العامية، وتؤديه الإبياري بصوتها".
ويعمل الكاتب على جمع النصوص التي نقلها للعامية تمهيداً لنشرها في كتاب، ويقول: "بعد الانتهاء من "كليلة ودمنة"، من المرجح أن أعمل على "ألف ليلة وليلة"، ثم أنتقل لكتب تراثية شيقة غيرها".
ألف رامي كتباً عدة بالعامية، ونشر عشرات المقالات باللهجة المصرية، لكن يشير إلى أن النقل من الفصحى للعامية أمر مختلف، وعن هذا يقول: "لقد استغرق نقل "كليلة ودمنة" للعامية مجهوداً أكبر كثيراً مما توقعت. قابلتني كلمات عدة لم أفهم معناها، ووجدت كلمات مهجورة ولم تعد تستخدم حتى في الكتابة بالفصحى في عصرنا الحديث".
لجأ يحيى إلى نصوص القرآن، والمعاجم، حتى يفهم ما تعنيه بعض الكلمات التي وجد صعوبة في فهمها مباشرة في "كليلة ودمنة": "هذا جعلني أشعر بمدى الفارق الكبير بين الفصحى والعامية، وشجعني على مواصلة هذا المشروع حتى يستطيع القارئ المصري أن يطلع على كتب تراثية شيقة، ويشجع الكثيرين على القراءة والفهم بسهولة ويسر".