هذا الكتاب طريف في موضوعه، وغير مسبوق في نوعه، على الأقل في تونس. يقوم الكاتب والباحث التونسي أنس الشابي، مستنداً إلى معرفة طويلة وعميقة بعوالم الكتب، في كتابه" السرقات الأدبيّة في تونس بعد الاستقلال"، بمراجعة لتاريخ الخصومات الأدبية حول ملكية الكتب، وقضايا الانتحال الأدبي.
الشابي كان على مدى سنوات رقيب الكتب والمصنّفات الأدبية والسياسية في تونس، وقد أهّله موقعه إلى أن يكون في قلب الوسط الثقافي، عارفاً بكواليسه ومعاركه الجانبية التي يتداخل فيها الذاتي بالموضوعي والفكري بالسياسي، على نحو معقّد، تُستعمل فيه أحياناً كل الأسلحة لضرب الخصوم، وعلى رأسها تشويه السمعة الأدبية وتدمير رأس المال الثقافي للفاعلين.
جاء الشابي إلى هذا الكتاب من هوية جمع الصحف القديمة وفهرستها، والتي اكتشف بين صفحاتها معارك الكتّاب حول السرقات الأدبية والردود والردود على الردود. يقول الشابي مفصّلاً دواعي التأليف في هذا الباب: "ضمن هذه الرؤية جمعتُ ما وقع تحت يدي من مقالات تناولت السرقات الأدبيّة -أيام كنت ألملم نصوص محمد الصالح المهيدي المتناثرة في شتى المطبوعات- ولم أكن أفكّر في البداية بنشرها إلّا أنّ أحد الأصدقاء دعاني إلى المشاركة بنصّ في ملفّ حول هذا الموضوع تعدّه جريدة خليجيّة، عندها تبَادَر إلى ذهني أنّ نشر ما هو بين يدي من سرقات أصبح أمراً مُلحّاً حفظاً للذاكرة وللحقوق الأدبيّة للأحياء والأموات من ناحية، وإشعاراً لِمن ينوي فعل ذلك مستقبلاً، بأنّ الفضائح ستطاله حيّاً أو ميّتاً من ناحية أخرى. فقد كان العلاّمة محمود محمد شاكر يصف عمليّة السطو على آثار الأدباء بالسطو العريان الذي سرعان ما ينكشف أمره ويصبح فضيحة تطارد مقترفها طوال العمر".
وقد أفرد الباحث جانباً كبيراً من عمله لنشر وثائق المعارك الأدبية حول ملكية الكتب، وهي طائفة واسعة من النصوص التي استقاها من الصحف، ملتزماً فيها – على حدّ قوله :"المحافظة على النصوص الأصليّة وعدم التدخّل فيها إلّا لإصلاح خطأ، كما رتّبتها بحسب تاريخ صدورها، أمّا تعليقاتي التي لم تتجاوز التذكير ببعض الأحداث ذات العلاقة فقد تركتها في الهامش مع الإشارة إلى ذلك منعاً للخلط بين نصوص متن الكتاب وإضافاتي، غير أني استثنيت من النشر النصوص التي تيقّنت بعد التثبّت أنّها تحمل مجرّد اتّهام لا سند له، سببه خلاف إيديولوجي أو شخصي نُفخ فيه لتصفية الحساب لا غير".
لذلك، كانت صلته بالأوساط الثقافية الطويلة والعميقة أداةً له للحكم على جذور الدوافع الشخصية وتفريقها عن التهم الموضوعية التي يكيلها كاتب لكاتب آخر حول سرقة هنا أو انتحال هناك. كما أفرد ملحقاً بآخر الكتاب جمع فيه ما وقع تحت يديه من سرقات تهمّ الفنون كالموسيقى والسينما وغيرهما، متمنياً على زملائه في بقية التخصصات الثقافية أن ينسجوا على هذا المنوال، فتتمّ "المبادرة الى جمع النصوص المبعثرة في مختلف الجرائد والمجلات، والتي ينظّمها خيط واحد أو موضوع واحد، تأريخاً للحيويّة التي عرفها الوطن في مجال الفكر والثقافة والفنون"، على حدّ قوله.
واللافت في ما جمعه الشابي من سرقات أدبية وتهم تدور حول الاقتباس، أنّ هذه الظاهرة طالت كل فنون الكتابة من صحافة وأدب وشعر وعلوم اجتماعية ومسرح. وأنّ تعريفها وضبط حدود السرقة الأدبية وتفريقها عن الاقتباس والنقل تبدو صعبةً وغير متفقٍ عليها، إذ يكون المشتغلون بالجوانب الإبداعية لهم من البراعة في إخفاء أو تمويه عملية النقل أو السرقة على نحو يصعب أحياناً رصده أو تحديده. ومع ذلك نجد أنّ بعض من إتُهموا بالسرقة الأدبية في التاريخ التونسي الثقافي المعاصر، هم أنفسهم كانوا ضحيةً لسرقة أعمالهم من طرف آخرين.
كما نرصد في الكتاب تواتراً لظاهرة السرقة الأدبية في الوسط الأكاديمي، بما تنطوي عليه من خطورة على نوعية التعليم الجامعي ومستوى الشهادات التي تمنحها الجامعات. كما حدث مع الحفناوي الماجري الذي نقل دروس أستاذه توفيق بكار، في كتابه "محمود المسعدي من الثورة إلى الهزيمة"، الذي صدر عام 1980، من دون إحالة إلى المصدر، بالشكل الذي تقتضيه المنهجية الأكاديمية. أو ما نجده من توظيف الأساتذة لطلبتهم في الكتابة والبحث، أو قيام طالبةٍ في إحدى الجامعات بسرقة رسالة دكتوراه كاملة من مصادر متعددة، ثم نجاحها في الوصول إلى درجة أستاذة في الجامعة نفسها، بسبب صلاتها السياسية مع السلطة، وغيرها من النماذج التي يقدّمها الكتاب.
ينقل أنس الشابي عن حسن حمادة في مقال عنوانه "لصوص الأدب والإجراءات الزجريّة" قوله إنّ المصالحة قد تحدّث بين السارق والمسروق منه وأنّ هذا التصرّف – الإعترافي – قد يساهم في الحدّ من ظاهرة السرقات الأدبيّة، وذكر لذلك أمثلةً. لكن تقدير الشابي للمسألة بحسب رأيه :"لا علاج لها سوى الفضح والنشر على أوسع نطاق، لأنّ المسألة لا تتعلّق بحقوق التأليف المادية فحسب بل في نسب النصّ الى صاحبه حتى تتّضح التخوم ونقاط التلاقي والتنافر بين النصوص وأصحابها، ولا تلتبس المواقف والاتجاهات بهذا النوع من السطو الذي سينكشف أمره طال الزمن أم قصر".