عند طرح السؤال المتكرّر بشأن ما إذا كان الغرب يسلك الطريق الذي سلكته قبله الإمبراطوريّة الرومانيّة، يعتقد البعض أنّ الوقت تأخّر حتى للإجابة على هذا السؤال. ينتمي هذا البعض إلى أطياف مختلفة من اليمين، لكن أيضاً إلى دوائر أكاديميّة. كما تآكلت روما من الداخل لفترة طويلة قبل أن تنهار تحت وطأة ضربات "البرابرة" أواخر القرن الخامس، هكذا هو الغرب حاليّاً، آيلٌ إلى السقوط الحتميّ بفعل "نخب" تعزل نفسها عن مجتمعاتها وتفتح الحدود أمام "موجات" كبيرة من المهاجرين الذين سيغيّرون الثقافة الغربيّة. هكذا إذاً، إنّ سقوط الغرب، بحسب هؤلاء، لا رجعة فيه.
لكنّ نظرة مغايرة تدعو إلى التمهّل قليلاً. إنّها النظرة المشتركة لرئيس قسم تاريخ العصور الوسطى في كلّية الملك بلندن بيتر هيذر وأستاذ الاقتصاد السياسيّ في جامعة كامبريدج جون راپلَي. يتعاون المؤرّخ والعالِم الاقتصاديّ في كتاب "لماذا تنهار الإمبراطوريّات: روما، أميركا ومستقبل الغرب" (Penguin Books) لإلقاء إضاءة مختلفة قليلاً عن النظريّات القديمة التي فسّرت أسباب سقوط روما.
مغالطات تاريخيّة
يشير الكتاب الصادر في أيار/مايو 2023 إلى أنّ معظم النظريّات (منها لبوريس جونسون وفيكتور أوربان وستيف بانون) التي حاولت استخلاص العبر من اندثار الإمبراطوريّة الرومانيّة استندت إلى دراسات المؤرّخ الأسبق إدوارد غيبون. مشكلة هذه الدراسات أنّها قديمة... جدّاً. هي تعود إلى أواخر القرن الثامن عشر، أي حين كانت الولايات المتّحدة تنال استقلالها، وقبل الثورة التكنولوجيّة التي ساهمت في تحديث علم الآثار. تقوم الأفكار الكلاسيكيّة لغيبون على أنّ ملّاك الأراضي فقدوا اهتمامهم بقِيَم الإمبراطوريّة على ما بيّنه نقص اهتمامهم بتدوين أعمالهم وخدماتهم على نُصب رسميّة. تزامن ذلك مع ذكر السجلّات الضريبيّة الرومانيّة للأراضي الزراعيّة المهجورة مع تضخّم نقديّ كبير في الإمبراطوريّة وانهيار ثقة المواطنين بالحكم المركزيّ. ودخلت المسيحيّة بتعاليمها المتسامحة فقلّلت من عزم روما على القتال، مع اضطرارها إلى إطعام "الأفواه الخاملة" من رجال الدين المسيحيين الذين مثّلوا طبقة جديدة. أدّى كلّ هذا إلى تراجع قدرات روما العسكريّة فانهارت أمام "البرابرة".
Why Empires Fall
— Professor Simon Chadwick (@Prof_Chadwick) June 11, 2023
Rome, America and the Future of the Westhttps://t.co/gxlbwPg22Z pic.twitter.com/5LFWYjR2Nd
يفنّد الكتاب كلّ هذه السرديّات. فروما لم تسقط بفعل مسار طويل من الانحدار. على العكس من ذلك، كان أحد الفلاسفة والقناصل (فلافيوس مانليوس ثيودوروس) يلقي خطاباً في 1 كانون الثاني (يناير) سنة 399 أمام مجلس الشيوخ يقول فيه إنّ حتى بروتوس (قاتل يوليوس قيصر) كان ليتمنّى أن يعيش في حقبته. شبّه الكاتبان خطاب القنصل بكلمة متفاخرة ألقاها الرئيس الأميركيّ الأسبق بيل كلينتون سنة 1999 واعداً أميركا بحقبة أكثر رخاء وازدهاراً قبل أن تنقلب الأمور سنة 2008 مع الأزمة الماليّة. والمسيحيّة، بعيداً من أن تقوّض الوحدة الرومانيّة ومن أن تمثّل "أفواهاً خاملة"، ساعدت على تشكيل "نوع جديد من الوحدة الثقافيّة" فيما لم يكن الموظّفون المسيحيون الجدد أكثر أو أقل خمولاً من الملّاك النخبويّين للأراضي في الإمبراطوريّة. التضخّم كان حقيقيّاً لكنّ تأثيره كان محدوداً لأنّه لم يطل جوهر ثروة ملّاك الأراضي (مقتنيات ثمينة). ولا تُظهر الاكتشافات الحديثة أيّ سجلّ ضريبيّ رومانيّ خارج عن المألوف كما افترض غيبون. علاوة على كلّ ذلك، كانت الأحوال المادّيّة مزدهرة في جميع أطراف الإمبراطوريّة، كما كشف مثلاً تنقيب خلال النصف الثاني من القرن العشرين في شمال سوريا. أمّا الأراضي المهملة فكانت ببساطة أراضي غير مدرّة للضرائب بينما مثّل نقص تدوين النخب أعمالها الخيريّة على نصبٍ حجريّة تحويلاً في تنافسها المحلّيّ إلى اهتمام بتعلّم القانون الرومانيّ للحصول على النّفوذ.
تطوّر جدليّ
يضيء الكاتبان على جدليّة العلاقة بين الطرف/المركز في الديناميّات الداخليّة الطبيعيّة التي أدّت إلى تحوّل القوّة من الساحل المتوسّطيّ إلى الشمال الأوروبّيّ بمرور الوقت. كان لا بدّ لمساحة هائلة مترامية الأطراف تربط بخط مائل العراق باسكتلندا أن تفرض تبايناً في مراكز الثروة والقوّة بمرور الوقت. فبالنظر إلى الفترات الزمنيّة الكبيرة لإتمام عمليات النقل التجاريّة والتي كانت أبطأ بنحو 20 مرة من اليوم، إلى جانب الأكلاف المترتّبة على ذلك، توجّب على المجتمعات الطّرَفيّة تعزيز اقتصاداتها المحلّيّة كما التعامل مع القبائل خارج حدود الإمبراطوريّة. حتى روما نفسها كانت تستورد النبيذ والزيت من الخارج. في جميع الأحوال، كان الناتج القوميّ للإمبراطورية الرومانية سنة 400 هو الأعلى من أي وقت مضى بعكس ادّعاء غيبون.
ويقارن الكاتبان بين مسار صعود العائلات الكبيرة من أصول متواضعة في كلّ من روما والغرب (أوسونيوس من بوردو وفان ديربليت الهولّدنية وتاتا الهنديّة) حيث استفادت هذه العائلات مادّياً، بفعل مبادراتها الخاصّة، من التوسّع الإمبرياليّ للمركز قبل أن تعيد تنمية الأطراف في وقت لاحق. أدّى ازدهار الأطراف وارتفاع الطلب فيها إلى توسّع للبيروقراطيّة الرومانيّة. لم يكن ذلك بسبب نزعةٍ ديكتاتوريّة خاصّة لدى تلك النخب الحاكمة كما هي فرضيّة غيبون وآخرين. حتى ذلك التوسّع بقي أضعف من أن يحافظ على تماسك الإمبراطوريّة. أدّى هذا إلى تحوّل روما إلى مجرّد "مكان مقدّس بعيد عن الطريق السّريع" كما قال أحد المعلّقين في القرن الرابع.
ربّما النقطة الأكثر إشكاليّة التي يتّخذها بعض المعلّقين كسبب لانهيار الغرب، بناء على ما أدّى إلى سقوط الإمبراطوريّة الرومانيّة، هي قضيّة المهاجرين. بات المهاجرون اليوم بحسب هؤلاء أشبه بـ"القوط" والـ"وندال" الذين وصفهم الرومان بـ"البرابرة" والذين تقدّموا تدريجيّاً على الحدود الرومانيّة وأقاموا كيانات سياسيّة حتى تمكّنوا من ضرب روما وإسقاطها من الداخل. بالتالي، إذا استمرّ الغرب باستقبال المهاجرين واللاجئين فسيواجه المصير نفسه بحسب هؤلاء.
ليس بهذه السرعة
ثمّة الكثير من الفرق بحسب هيذر وراپلي. اليوم، بإمكان الدول أن تتحكّم بعدد اللاجئين الآتين من دول العالم الثالث عبر القوانين. لم يكن بإمكان روما حتى "أن تحلم" بضبطهم عبر مراسيم تشريعيّة كما تفعل الدول الحديثة. ثانياً، يدخل اللاجئون المجتمعات الغربيّة ويندمجون فيها بشكل أو بآخر. "القوط" والـ"الوندال" أسّسوا كونفدراليّات أو كيانات سياسيّة تمكّنت بمرور الوقت من إخضاع روما. ولم يكن "البرابرة" راغبين بضرب روما لولا أنّهم تعرّضوا لضغط قبائل الهان الآتية من السهوب الأوراسيّة باتّجاه شرق أوروبا. ومن النقاط الأخرى التي يذكرها الكاتبان هي الاختلاف الكبير في الاقتصاد الرومانيّ التقليديّ والاقتصاد المعاصر. في السابق، كانت محصّلة ديناميّة الهجرة/الاحتلال صفريّة. حين دخل القوط الغربيّون والوندال شبه جزيرة إيبيريا ثمّ شمال أفريقيا وصولاً إلى قرطاجة، تمكّنوا من حرمان الإمبراطوريّة من قاعدة ضريبيّة هامّة. اليوم، يختلف الوضع جذريّاً بحسب الكاتبَين.
Peter Heather/John Rapley, Why Empires Fall: Rome, America, and the Future of the West. pic.twitter.com/6oMD9V92Ex
— Anthony Guyon (@Anthony_Guyon) March 19, 2024
نقل الكاتبان عن صندوق النقد الدولي إشارته إلى أنّه على العموم، ومع كل ارتفاع بنسبة المهاجرين بـ1 في المئة، يرتفع زخم الناتج القوميّ على المدى البعيد بنسبة 2 في المئة. ومع التراجع الديموغرافيّ الذي يصيب سكّان الغرب من جهة، وارتفاع أمد حياة الإنسان بسبب التطوّر الطبّيّ من جهة أخرى، يحتاج الغرب إلى مزيد من القوة العاملة. على سبيل المثال، كان المتقاعدون اليابانيّون يمثّلون 10 في المئة من إجمالي السكان سنة 1960، بينما أصبحوا اليوم يمثّلون 30 في المئة منهم. حينها، دعم كلّ يابانيّ في سنّ العمل يابانيّاً آخر، ومعظم هؤلاء كانوا من الأطفال على عتبة دخول سوق العمل. اليوم، على كلّ عامل يابانيّ أن يدعم شخصين، ومعظمُ الحاصلين على الدّعم هم من المتقاعدين. الوضع في الدول الغربية الأخرى أقلّ سوءاً لكنّ القاعدة نفسها تنطبق إلى حدّ بعيد.
ويردّ الكاتبان أيضاً على رئيس حزب "بريكست" السابق نايجل فاراج الذي يقول إنّ المهاجرين يُغرقون هيئة الخدمات الصحّيّة البريطانيّة. يقولان إنّ الأمر صحيح، لكنّ قسماً كبيراً من هؤلاء (الثُلث) هو من الأطبّاء. وبما أنّ تدريب طبيب في العالم الغربيّ يكلّف دافع الضرائب نحو 300 ألف دولار، تكون استفادة الغرب من الأطبّاء الأجانب أوسع نطاقاً. لا ينكر الكاتبان أنّ للهجرة أكلافها الخاصّة على المجتمعات المضيفة، كما على المهاجرين أنفسهم، لكنّهما يدعوان القادة إلى أن يكونوا صريحين مع شعوبهم.
مخاطر أخرى
بما أنّ التمدّد المفرط للإمبراطوريّة الرومانيّة في الشرق لمواجهة الإمبراطوريّة الساسانيّة أضعف الأولى على طريق مواجهة القوط والوندال، دعا راپلَي وهيذر الغرب إلى التعامل بواقعيّة مع صعود الصين. بالرغم من أنّهما تواجهتا إلى حدّ بعيد، تمكّنت الإمبراطوريّتان من التعاون في قضيّة مواجهة القبائل الغازية. ويريان أنّ التحدّيات المشتركة قادرة على دفع الغرب والصين إلى الحوار بدلاً من الاقتتال، مشيرَين إلى أنّ مواجهة الولايات المتحدة للصين بطريقة مباشرة ذات آثار عكسيّة على أميركا والغرب.
ويجري الكاتبان مقارنة بين العقد الاجتماعيّ الذي يربط الحكومات الغربيّة بمواطنيها والعقد الاجتماعيّ الضمنيّ الذي ربط روما بملّاك الأراضي الرومان. هؤلاء، وبمجرّد أن انكسرت قدرة الإمبراطوريّة على الدفاع عنهم بوجه الغزاة، نقلوا ولاءهم إليهم. العقد الاجتماعيّ اليوم بين الحكومات وشعوبها يقوم على مواصلة تقديم الضمانات الاجتماعيّة والرخاء المعيشيّ. لكن بسبب انكسار التوازنات الديموغرافيّة وبفعل السياسات الضريبيّة والنقديّة التي تفيد فقط الأثرياء، يخضع العقد الاجتماعيّ لتوتّر حقيقيّ.
على سبيل المثال، وبعد حُزَم الإنفاق الكبيرة التي أقرّتها الحكومات والبنوك الغربيّة عقب الأزمة الماليّة، كما عقب جائحة "كورونا"، استفادت بالشكل الأكبر شركات "الزومبي" (شبه المفلسة) والشركات الأخرى التي أعادت توزيع الأرباح على مديريها التنفيذيّين بدلاً من التعاقد مع موظّفين جدد. في العقد الذي تلا الأزمة الماليّة، ازدادت الأصول المنتِجة بنحو النصف بينما ارتفعت نسبة إعادة شراء الأسهم بأربعة أمثال. ويرى الكاتبان أيضاً أنّ فرض الضرائب على المداخيل ليس حلّاً كافياً إذ تشتدّ الحاجة أكثر إلى فرض الضرائب على الثروات، علماً أنّ الأخيرة هُرّبت إلى الملاذات الضريبيّة الموجودة في دول العالم الثالث وهي تُقدّر بـ7 تريليونات دولار. مجدّداً، يشبّه الكاتبان ذلك إلى حدّ بعيد بنقل ملّاك الأراضي الرومان ولاءهم إلى ملوك الغزاة. وهناك أيضاً مشكلة إصدار الديون التي بدلاً من أن تهدف، كما فعلت في الماضي، إلى زيادة الإنتاجيّة، أصبحت مجرّد وسيلة لتأجيل للدفع.
في الخلاصة
ينجح الكاتبان في إيصال المعلومات للقارئ بطريقة سرديّة سهلة. هما يتنقّلان بين التاريخ والحاضر لاستخلاص النقاط المشتركة والمتضاربة، ممّا يُبعد الرتابة عن السّرد. للتأكيد، ليس الكتاب تاريخاً مفصّلاً عن الإمبراطوريّة الرومانيّة. لهيذر كتبٌ عدّة للراغبين في تكوين معرفة أعمق عن تاريخ الإمبراطوريّة.
على أيّ حال، يبقي هيذر وراپلي على تفاؤلهما بإمكانيّة أن يتفادى الغرب مستقبلاً قاتماً إذا اتّبع الإصلاحات التي يدعوان إليها. قد لا يعود الغرب إلى سابق عهده، لكنّه قادر على الاحتفاظ بتفوّق نسبيّ مع عالم أكثر استيعاباً للقوى الصاعدة بحسب رأيهما. هكذا، لم يفت الأوان لتجنّب مستقبل روما.