مستندةً إلى خبرة طويلة من العمل الميداني في تونس ومصر، تقدم لنا العالمة الاجتماعية التونسية الفرنسية سارة بن نفسية، وزميلها أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة السوربون المتخصص في شمال أفريقيا وإنهاء الاستعمار بيار فيرميرين، مراجعةً دقيقةً لتجربة الإخوان المسلمين في السلطة بين تونس ومصر خلال العقد الماضي (2011 – 2021). يجمع الكتاب الذي أشرفا على تحريره ''الإخوان المسلمون في اختبار السلطة: مصر، تونس (2011-2021)" (Éditions Odile Jacob 2024)، نتاج أعمال باحثين من تونس ومصر، انشغلوا خلال السنوات الماضية بالمتابعة البحثية والنقدية للتجربة الإسلامية في السلطة.
في أعقاب اندلاع الثورات العربية وتداعي الأنظمة التي حكمت في مرحلة ما بعد الإستعمار الأوروبي، كان الإخوان المسلمون الرابح الأكبر من هذه الموجة الشعبية، غير المسبوقة في تاريخ الوطن العربي المعاصر. وهي موجة كشفت للباحثين عن مدى الترابط الوثيق بين دول المنطقة العربية، خلافاً لكل التحليلات النقدية التي ترسخت خلال النصف الثاني من القرن العشرين للدفاع عن أطروحة نهاية الوحدة العربية وانتصار نموذج الدولة الوطنية. وبالضد من هذا النموذج نجد أن جماعة الإخوان المسلمين، بوصفها جماعة فوق وطنية، تؤمن بالخلافة الإسلامية، كسبت موقعاً أساسياً في المنطقة بعد الثورات العربية، واستفادت من المدّ الشعبي لتعزيز قاعدتها الاجتماعية وموقعها من السلطة والثروة. ضمن هذا المنظور المتعدد الزوايا: السياسية والثقافية والاقتصادية، يقودنا هذا الكتاب إلى فهم أوسع لتجربة الجماعة الإسلامية في السلطة وكيف صعدت إليها ولماذا خرجت منها على نحو قسري؟
باعت الجماعة في تونس ومصر ببراعة سمعتها الأخلاقية، القائمة على الورع والتقوى، للجماهير بشكل محترف ومنظم. فقد كانت الحركات السياسية الإخوانية هي الكيانات السياسية المنظمة الأكبر والأكثر قدرة على التعبئة بعد سقوط النظامين في تونس ومصر، حيث لم تكن المعارضات القومية واليسارية قادرة على تنظيم أنفسها وتعبئة قواعدها بالقدر الذي يؤهلها للمنافسة. لذلك وجدت الجماهير المصرية والتونسية في الإخوان المسلمين، من خلال خطابهم الديني والأخلاقي، الخيار الأفضل بالنسبة إليها في الانتخابات في مصر وتونس عامي 2011 و2012. يشير الكتاب إلى أنه لا يمكن أن نفهم الانتصارات الانتخابية للإخوان بعد "الربيع العربي" إذا لم ندرج في التحليل حقيقة أنهم حصلوا على مساعدة من عوامل مهمة. في مصر، مثلاً استفاد الإخوان من تواطؤ السلطات العامة، على مدى عقود منذ عهد الرئيس أنور السادات، والتي أرادت سحق الاحتجاج اليساري. ومن ناحية أخرى، استفادت الجماعة من مودة الصحوة الإسلامية في الخليج، منذ السبعينات، دينياً ومالياً واجتماعياً، والتي كان لها تأثير كبير في شمال أفريقيا.
يركز الكتاب اهتمامه على تحليل سلوك جماعة الإخوان المسلمين في السلطة، من خلال نموذجي تونس ومصر، وكذلك، وهو الأهم، موقف الجماهير المصرية والتونسية من الجماعة بوصفها سلطةً، وكيف تغير بعد الفشل الذي مُنيت به التجربة على كل الصعد. فقد كانت الجماعة غير قادرة على الاستجابة للتوقعات الاقتصادية والتطورات الثقافية في المجتمعين التونسي والمصري حيث لن تنجح في تقدير قوة المجتمع، وبخاصة قوة مؤسسات "الدولة الوطنية" الصلبة. وهنا لا بد من تحليل النموذج المصري، حيث سقط حكم الجماعة بعد سنة واحدة، بعد تنامي الغضب ضدها من تحالف واسعٍ، ضم إلى جانب الجيش، المؤسسة الأبرز، القوى المدنية والفاعلين السياسيين والاقتصاديين. فرغم قدرة الجماعة على التعبئة ونجاحها في الوصول إلى السلطة، إلا أنها عجزت عن ممارسة السلطة بسبب عدم قدرتها على إدارة التنوع في المجتمع المصري، وإدارة العلاقة مع مؤسسات الدولة الصلبة والراسخة منذ عقود. فقد عبرت منذ البداية عن نزوع نحو "التمكين" وهو الاستراتيجية السياسية للجماعة منذ تأسيسها قبل حوالي مئة عامٍ. أما البعد الثاني، فهو كشف تجربة السلطة عن خواء الجماعة من النخب التقنية والسياسية القادرة على إدارة الدولة. وكشف الفشل الاقتصادي والاجتماعي في التجربة التونسية عن عجز "حركة النهضة" عن استقطاب نخب إدارية وسياسية وتقنية تستطيع تنفيذ برامج تنمية تحقق الشعارات التي رفعتها الحركة في حملاتها الانتخابية. هذا العجز النخبوي، يؤكد الطابع الاحتجاجي للجماعة والإسلام السياسي عامٍةً. فالإسلاميون لهم قدرة كبيرة على الاحتجاج والمعارضة، لكنهم عاجزون عن قيادة الدولة، لأن ذلك يحتاج، إلى جانب الكوادر النخبوية، تغييراً في العقلية الاحتجاجية. وفي حيزّ آخر يقدم الكتاب جانباً مختلفاً عن تصورنا للإسلاميين في السلطة، له صلة بالفشل الاقتصادي لهم من خلال تحليل سلوكهم الطبقي والاقتصادي بعد بلوغهم السلطة، إذ تحولت قطاعات كبيرة منهم نحو الدخول في المصالح المشتركة للنخبة المالية والتجارية. ويخلص إلى تبني الجماعة نموذجاً نيوليبرالياً ريعياً في مقاربة الاقتصاد، وهذا ما جعل فشلها في إدارة الشأن الاقتصادي أكثر كارثيةً، لأنها كانت عاجزةً عن التوفيق بين هذا التوجه ووعود التنمية التي قطعتها على نفسها لفائدة قاعدتها الانتخابية التي تنتمي في عمومها إلى الطبقات الوسطى.
أما الجانب الآخر في تحليل الإخوان ضمن اختبار السلطة، فيتعلق بموقف الجماهير المصرية والتونسية من الجماعة قبل السلطة وبعدها. فقد تحولت الحركات السياسية الإسلامية من رمزٍ للنزاهة والتدين قبل السلطة إلى رمزٍ للمحسوبية والفساد بعد السلطة، ويبدو ذلك أكثر وضوحاً في تونس، بسبب طول بقاء "حركة النهضة" في الحكم بين 2011 و2021. ويرصد الكتاب تحولاً هائلاً في نظرة الجماهير إلى الحركة الإسلامية والتي تجلت بوضوح في تراجع شعبية الحركة في الانتخابات المتعاقبة خلال استحقاقات 2014 و2018 و2019. حتى بلغنا عام 2021، عندما خرجت الحركة من السلطة قسرياً على يدي الرئيس قيس سعيد. وكان واضحاً منذ اللحطة الأولى، غياب أي رافد شعبي للحركة في مواجهة الرئيس. بل إن الأشخاص أنفسهم الذين صوتوا لراشد الغنوشي وحزبه "النهضة" في تونس، هم الذين يدعمون اليوم الرئيس قيس سعيد، وذلك تعبير جلي عن إحباط واسع في صفوف القاعدة الاجتماعية للإسلاميين، وبحثها عن بدائل سياسية ربما تكون وجدتها في الرئيس سعيد، الذي يشترك معهم في النزعة المحافظة.
يقدم الكتاب مراجعةً نقديةً لتجربة الإخوان المسلمين في السلطة في بلدين أصبحا مختبراً لتجارب الإسلامي السياسي قياماً وحطاماً. ولكنه يفتح في الوقت نفسه أفقاً لتصور الإسلام كدين، والإسلامية كنزعة سياسية، في مرحلة ما بعد الإخوان، ويفتح النقاش في كيفية تجاوز الإسلاموية وأشكالها في مجتمعات حققت درجات عالية من التحديث وتطور التعليم وانفتحت بالضرورة على مودات مختلفة ومؤتلفة من الفكر النقدي، مشيراً إلى إمكان حدوث ثورة ثقافية في المجتمعات الإسلامية مستقبلاً تقطع مع تحويل المقدس إلى برنامج سياسي، وتؤدي إلى تحييد المشتركات الثقافية عن الصراع السياسي. يبقى ذلك أملاً قائماً، لا سيما أن قطاعات وأفراداً من داخل الإسلام السياسي نفسه بدأت تقديم محاولات نقدية للتجربة في سبيل تجاوزها.