عن الدار المصرية- اللبنانية في القاهرة، صدر حديثاً كتاب عمار علي حسن "قاموس الروح... التصوف كما يجب أن نعرفه"، يحوي أكثر من 160 مصطلحاً أو مفهوماً صوفياً تمسّ الروح، لكنها مكتوبة بطريقة تختلف عن المتبعة في القواميس والمعاجم التقليدية، حيث أصاغها الكاتب بأسلوب أدبي، وبث فيها تذوقه الخاص عن التصوف.
يختلف كتاب "قاموس الروح" عن سابقيه في قيامه على تأمّل مفاهيم متعلقة بالروح خصوصاً، ثم إقامة حوار حولها بين شيخ ومريد متخيلين، في محاولة للاقتراب من الأسرار الكبرى لها. وقد انغمس المؤلف في 165 مصطلحاً صوفياً وتأملها، ليقدّم تذوقه وتفكيره الذاتي، فيجلي الغموض الذي يلتبس بعضها عبر أربعة سبل هي: السرد والحوار وحضور الصورة وانسياب اللغة، مبحراً بنا في الأحوال والمقامات والمراتب والفضائل والقيم والوسائل والمعاني.
يعدّ الكتاب محاولة لتذوق مفردات التصوف بعيداً من الغامض والمكرّر في قلب القواميس والمعاجم المتداولة. هو نص عابر للأنواع، يقف على التخوم بين الأدب والتصوف والاجتماع، وربما الفلسفة، بل قد يوغل فيها جميعاً برفق.
الكتاب محاولة لإضافة مدماك جديد في بناء التصوف الإسلامي السامق، الذي توالت عليه النوائب والعواصف والتدابير المثبطة والمحبطة، التي أرادت له أن ينهار، لكنه بقي صامداً في وجه التطرّف والخرافة.
يُشار إلى أنّ هناك كتباً تحوي مصطلحات الصوفية ومفاهيمها قد توالت عبر القرون، وبذل الذين التقطوا مفرداتها وصنَّفوها ورتَّبوها جهداً في رصدها وعرضها، لكنها لم تكن غالباً سوى اقتباس مما تركه المتصوفة الأوائل، أو نقل أمين عنهم، معتمدة على ما جادوا به في تأملاتهم، وانفعالاتهم، وجيشان عواطفهم، وإلهاماتهم السخية.
بدت هذه الأعمال في مجملها كأنّها عمل واحد، أو اقتطاف محدّد من أعمال عدّة، لم تفارقها، إذ غرفت منها أو نهلت، فتكرّر ما كُتب تحت كل مصطلح، من قاموس إلى آخر، دون أن يُعني كثيرون بالإفاضة والإضافة. فهم لم يبذلوا الجهد المطلوب في شرح الغامض والملتبس، ولم يكتبوا شيئاً كثيراً يُذكر، ينضمّ إلى ما تركه الأقدمون.
وقد أبدع القدماء من المتصوفة بتأمّلاتهم العميقة قاموساً مختلفاً للروح، من يطلّع عليه يجده حافلاً بالأسرار، يتقدّم فيه الرمز على المعنى المباشر، وتعلو الإشارة فوق العبارة، ويُخاطب الوجدان أكثر مما يُخاطب العقل، ويُعبّر في مجمله عن رغبة أصحابه في الوصول إلى الحقيقة، عبر المجاهدة التي قد تجود بالإشراقات المبهرة، ويأتي معها النور والعجائب، أو نصرة الحق، عبر تحري المسار المؤدي إليه، دون التواء، ولا مواربة، ولا تردّد، وتكون الحقيقة ومعها الحق يسعيان إلى بلوغ المعنى الأسمى والأسنى للوجود.
جاء اللاحقون ليسجّلوا كل هذا تسجيلاً أميناً، في الغالب الأعم. وهذا لا يمثل عيباً في حدّ ذاته، فمن وضعوا تلك القواميس كانوا باحثين في التصوف، وليسوا متصوفة جدداً، أو معنيين بإنتاج تأملات مختلفة، أو إبداع طريقة تقرّب المصطلح من إفهام الناس في زماننا، ولهم في كل هذا فضل استخلاص المفاهيم وتصنيفها وترتيبها وتقديمها للقارئ في كتب.
لوحة للفنان محموج سعيد
تذوّق المصطلحات
لكنّ هذه المعاجم نقل بعضها من بعض، نقلاً واضح الإفراط فيه، وإذا كان بعض أصحابها قد بذلوا جهداً في الشرح اللغوي أو تأصيل المفهوم من كتب كبار المتصوفة، فإنّهم لم يجلوا غامضاً، ولم يشرحوا مستغلقاً على الإفهام، والأهم من كل هذا يبدو ما أوردوه في معاجمهم، غير مستنبت أو مستخلص من تذوقهم هم، إنما هو تذوق آخرين من أقطاب التصوف، لم يدّع أي منهم أن ما تركه هو نص مغلق، غير قابل للأخذ والردّ، والإضافة والحذف، أو إبداع جديد، سواءً عبر وضع مصطلحات أخرى، أو تذوق المصطلحات السابقة بمشرب خاص.
اجتهد العلماء المختصون بدراسة التصوف في تأليف معاجم تحوي مصطلحاته ومفرداته الأساسية، قالوا إنّهم يقدّمون فيها تفسيراً لهذه المصطلحات، لكنّها في الحقيقة لم تضف كثيراً، ولم تنجح نجاحاً ملموساً في فك شيفرات هذه المفردات، أو إنهاء ألغازها، فبدت بعيدة كل البعد عن متناول قارئ عادي يريد ألّا يقف عند شاطئ التصوف، بل يبحر فيه ولو قليلاً.
بعد توضيحه في مقدمة الكتاب ما ينقص المعاجم والقواميس الصوفية السابقة، يقول عمار "لأنّ الأمر كذلك، فقد أردت في هذا الكتاب أن أحاول الاقتراب من الأسرار الكبرى للتصوف، التي أنتجت الكثير من الاصطلاحات، فأتذوقها وأتأملها، وأنغمس فيها انعماساً عميقاً، وعلى قدر الاستطاعة، ولذا فإن كانت المفردات الواردة هنا متداولة في كتب المتصوفة، فإنني اعتمدت على ما أنعم به الله عليًّ، فهو سبحانه صاحب العلم المطلق، فانعكس على تذوقي وتفكيري الخاص، وتأملي الذاتي، في المعاني والمفاهيم والمصطلحات التي نطق بها المتصوفة، لأخفف الغموض التي يلتبس بعضها من خلال أربعة سبل هي: السرد والحوار وحضور الصورة وانسياب اللغة أو تدفق التعبير".
وأضاف عمار أنّ هذا الكتاب تجربة خاصة على ضفاف التصوف، حتى وإن جاء من يرى أنّها تقع في قلبه، فالتصوف بحر لا شطآن له، ومهما سبحنا فيه، فلن نبلغ شاطئه الآخر، حتى وإن امتلكنا غاية المهارة في السباحة، وغاية المعرفة بأحوال البحر وشؤونه وشجونه.
وتابع: "الكتاب محاولة قد تُضاف إلى تلك التي تركها لنا السابقون، ومن حقنا أن نحاول كما حاولوا، وأن نكون مثلهم حين أدركوا أنّهم مهما بلغوا من الإفهام والإحكام، فإنّ كل هذا كان مجرد تجارب ذاتية، لا تغلق الباب أبداً أمام الآخرين ليجرّبوا، لعلّهم يفلحون في إضافة مدماك جديد في بناء التصوف الإسلامي السامق، الذي توالت عليه النوائب والعواصف والتدابير المغايرة، التي أرادت له أن ينقض، لكنه بقي صامداً في وجه الزمن".
إبحارٌ وتذوّق
في هذا القاموس، نبحر دون بلوغ أي شاطئ، ونحن نتذوق الأحوال والمقامات والمراتب والفضائل والقيم والوسائل والمعاني، ونسبر أغوار الزمان والمكان على قدر التذوق والاجتهاد والجهد، فتظهر لنا مفردات إن كان لها تعريف في قواميس اللغة، أو معاجم العلوم الإنسانية، أيا كانت، فإنّها تأخذ مع التصوف، ولدى المتصوفة، معاني أخرى، فريدة في نوعها، متفردة في تركيبها.
واستأنس الكتاب بكثير من المعاجم الصوفية مثل كتاب عبد الرزاق الكاشاني "معجم إصطلاحات الصوفية"، وكتاب عبد المنعم الحفني "معجم مصطلحات الصوفية"، وكتاب سعاد الحكيم "المعجم الصوفي"، وكتاب أنور فؤاد أبي خزام "معجم المصطلحات الصوفية"، وكتاب حسن محمد الشرقاوي "ألفاظ الصوفية ومعانيها"، وكتاب رفيق عجم "موسوعة مصطلحات التصوف الإسلامي"، وهي جهود معتبرة، لكنها لم تقطع شوطاً في نقل مفاهيم التصوف من أذواق ومواجيد خاصة الخاصة، من أصحابها الأصلاء، إلى أفهام العموم، الذين يجدون يسراً في قراءة فروع مختلفة في الدين، ويعجزون عن القيام بالأمر نفسه، باستمرار واقتدار، مع التصوف.
ولم يشأ الكاتب أن يأتي على كل مصطلحات التصوف ومفرداته، إنما اختار منها ما يُدرج تحت العنوان الذي اتخذه الكتاب وهو "قاموس الروح"، فعكف على تذوق كل ما يمسّ الروح من كلمات صوفية راسخة، ورتبها أبجدياً، من الألف إلى الياء، محاولاً تقريبها إلى الأذهان سواءً من خلال السرد أو الحوار، وكل منهما سبيل عفي لتحقيق مثل هذا الغرض الضروري.
ويُضاف كتاب "قاموس الروح"، إلى كتابات عمار علي حسن الأخرى في التصوف، التي تنوعت بين الدراسة العلمية مثل كتابي "التنشئة السياسية للطرق الصوفية في مصر... ثقافة الديمقراطية ومسار التحديث لدى تيار ديني تقليدي"، والتراجم مثل كتابي "فرسان العشق الإلهي" الذي حوى سير غيرية مكتوبة وفق منهج واحد لـ44 شخصية صوفية بارزة في تاريخ المسلمين، والتأملات التي تربط التصوف بالواقع الاجتماعي مثل كتاب "مقام الشوق .. تجلّيات صوفية"، الذي وضع فيه 33 مقاماً صوفياً خارجة من الحياة، تعيد اكتشاف الولاية والزهد والمعرفة الحدسية، وتجعل النزوع إلى التصوف سبيلاً للنهوض، من خلال الامتلاء الروحي والسمو الأخلاقي والخيرية أو التعاون وقيم الإيثار والتسامح. ناهيك عن أربع روايات من أعماله التي وصلت وقت صدور "قاموس الروح" إلى 14 رواية تصنّف كروايات صوفية هي "شجرة العابد" و"جبل الطير" و"السلفي" و"خبيئة العارف"، فضلاً عمّا ورد من قصص قصيرة تحوي طقوساً صوفية.
لكنّ "قاموس الروح"، الذي يقوم على تأمّل كل مفردة، ثم إقامة حوار حولها بين شيخ ومريد متخيلين، هو كتاب مختلف عن كل هذه الكتب السابقة، سواءً في التصوف أو غيره.