لماذا نكتب الأدب؟ ومتى يصبح الكلام الذي نكتب، والقول الذي نتلفّظ به يعتمد تعبيراً أدبياً؟
وحين نحكي، نروي، متى، وكيف نعرف النوعَ والمحفلَ الذي نحن فيه؟ وما هي ملاءمات صياغاته التي بحسبها يندرج في تصنيف سردي محدد؟ ثم ما هي المعايير والمحددات الحاسمة في هذا التصنيف؟ في ضبط الفرق بين الحكاية والرواية والقصة القصيرة؟ منشئو الأدب شعراء وكتاب ملاحم وتراجيديا هم الذين وضعوا الجغرافيا النصية للأجناس الأدبية، وجاء النقاد بعدهم يقرؤون نصوصهم وفي ضوء تكوينها وبنائها ونسيجها يقعِّدون وينظّمون النماذج، والذين يقولون بعكس هذا أشباه نُقاد ومنظّرون تُعْوزهم الفطنة الأدبية ولا يقرؤون النصوص، ومن أرسطو إلى رولان بارت، تأسّس الدرسُ الأدبي وقواعدُ أجناسه وشِفرته على هذه القراءة؟...
في نهج هذه الأسئلة الضرورية، لكي نوقف نزيف الثرثرة والكلام العائم يريد الانتساب قسراً إلى الأدب ويبتز أشكاله ويزعم خرق قواعده قبل أن يتعلمها، ولكي نضمن الاتّساق لشكل المحتوى، والبنية الفنية للخطاب، يمكن الحديث في سياقٍ نظيرٍ عن مدعاة وكيفية الانتقال من جنس أدبي إلى آخر، فهي ليست نزهةً في بستان، وأشقّ من تسلق جبال الألب، حين يؤخذ الأمر جداً لا نزقاً أو تسلية بين وقتين، من قبيل من يتسمون "كتاب يوم الأحد"، وأحياناً عجزاً عن مواصلة الكتابة بالحِرفية المطلوبة.
يحفزني لهذا القول ما نجده في تاريخ الأدب من تراوح كُتّابٍ بين أكثر من تعبير، وإن غلب عندهم فنٌّ واحد. وإما تدرُّجهم من نوع إلى آخر فكأنه قميصٌ ضاق بهم ويحتاجون إلى رفاه، أو فضفاضٍ فيحتاج إلى ترشيق.
وهل أفضل من القصة القصيرة نصاً رشيقاً، مقتضباً بحدوده الصّارمة، وتقاطيعه الدقيقة المحسوبة، لا زيادة ولا نقصان. نعرف من بدأ بها وانتقل إلى الرواية، ومن انتقل من الأخيرة إليها، ومن تراوح بينهما تراه يحطّ في كل مرة رحلَه حيثما واتته أرضُ الكتابة وأسلست القياد؛ وبالطبع، من اعتنقها شريعةً فنية بلا رِدّة أبداً، كانوا كثرة وأمسَوا قِلة، وما ذلك إلا لتدبير.
أثير هذه المسائل ومن قبيلها، وقد وقعت بيدي مجموعة قصصية جديدة هي من غنائم معرض الكتاب الدولي الأخير في الرباط، اقتنيتها بنفسي لا إهداءً من كاتبها، لذلك أتحرر سلفاً من حرج بل تضايق الشعور بدَيْن الإهداء، فأنا اخترت ما أقرأ وأملك حرية الرأي مطلقاً.
أعني "الخميس" للكاتب المغربي محمد الأشعري (منشورات المتوسط، 2024)، وهو متعدّد التعابير، متلوِّن القول. لإعادة التعريف به نذكر أنه بدأ بالشعر أو شاعراً: "صهيل الخيل الجريحة" في عام 1978 تلتها أربعة دواوين أخرى. بينها أصدر مجموعة قصصية "يوم صعب" (1992) وكان حقاً زمناً صعباً في المغرب. ثم أكاد أقول إنه فاجأ الوسط الأدبي المغربي بروايته "جنوب الروح" (1996) تلتها رواية "القوس والفراشة" (2010) بوّأته مكانة جائزة بوكر فصحّ بمقاييسها أن يحوز لقب الشاعر والروائي، ومضى في هذا السبيل الأدبي، مرةً يكرَع من كأس الشعر وأخرى يحرُث حقول السرد الواسعة، وانقطعت صلته بالقصّ القصير، أعطى فيه باكورته، لتغويه جاذبيات ومهام أخرى.
بين القصة والشعر
في التراوح بين الشعر والرواية ليس الأشعري فارساً أعزل، بل نحن اليوم أمام ما يشبه الظاهرة، يتكاثر كتّاب الرواية ويقلّ الشعراء أو على حساب الشعر، حتى أن هناك من جرّاء الانتقال ضيّع المِشيتين وشرحُه يطول.
ثم ها هو صاحب "من خشب وطين" (2021) يطل علينا في وقت متزامن، بالعبارة الفرنسية، بـ"قبّعتين"، ديوانه "جدران مائلة" (منشورات المتوسط) نعتبر هذا دأباً، فالشعر ديدنُه وسنستعيد باطمئنان بيت أبي تمام الشهير: "نقِّل فؤادك حيث شئت من الهوى/ ما الحبُّ إلا للحبيب الأول".
لكن، ونحن نصل إلى "الخميس" أو أصل أنا القارئ المعنيّ بما آل إليه: "صهيل الخيل الجريحة" (ديوانه، 1978) أرتبك قليلاً، تُثقل كاهلي الأسئلة قبل القراءة، وتتقوّى خلالها، وبعدها أكاد لا أحار جواباً، أي لا أملك يقيناً، همّي الأكبر أن أُشبع شهيةً مفتوحة للسؤال. أوله، ها نحن نقطع معه مسافة ثلاثة عقود كي تستأنف القصة القصيرة لا أعرف دورتها أم خطها المتعرّج حتماً، فلا كاتب مغرب وعربي بمعنى مستحق ملك خط كتابة وعيش مستقيمين.
ربما لو سألنا الكاتب نفسه، سنسمّيه مؤقتاً القاصّ، قبل أن يقلب لاستئنافه ظهرَ المِجنّ، ما خطبك؟ وكيف عدت وتأتّى لك أن تَسُلَّ الشعرة من العجين؟ أحسب سيعجزه السؤال، لأن الأدب عمليةٌ مركّبة وشبكةٌ متواشجةُ الخيوط، وخطورتُها صنعُها على طريقة طرز الغرزة المغربي، كم يسقط في الطريق والامتحان من عاشق ولهان وذي فصاحة وبيان، لا شأن لنا بالعَيِّ والعيّان. ها أنا أقترب من مراد مقالي أكثر لكي أزيد إمعاناً في السؤال. فأقول إن كتاب "الخميس" الذي يحتوي على خمسة عشر نصاً /عنواناً من كلمة واحدة وكلمتين فقط، علامتين بمثابة دليل سير، يغوي بالقراءة حكايات، أو الحكاية فيه مصيدة، المهم أنه يحقق الشرط الأول لفعل قصّ يقصّ وبدونه يبقى خطرات وسيل كلام كيفما اتفق، ولو كره الكارهون.
في قصّه يلعب محمد الأشعري لعبتين: نبشُ أثر قديم، رقيمٍ، وشمٍ من أوشام الذاكرة. إنه تلميذ وفيٌّ لطرفة بن العبد في مطلع معلقته: "لخوْلَة أطلالٌ ببُرقة ثهمَد/ تلوحُ كباقي الوشْمِ في ظاهر اليد".
في قصة: "ريلكه وجدتي" يستحضر مقطعاً شعرياً لريلكه عن المجانين: "هناك في الأعالي، حيث تتباعد الأغصان/ يتبدى القمر، كما لو كنتم سكانَه، ويبقى وحيداً" ويتخذه مدخلاً لاسترجاع ذكريات ومشاهد من طفولته في بلدة "زرهون" حيث أسس إدريس الأول الهارب من المشرق الدولة الإدريسية، وأصبحت مع الزمن مدينة البركات والروحانيات والمجاذيب؛ فيروي بعض حكاياتهم وحياة السكان معهم، تتسم كلها بالغرائبية وهي جزء من المخيال الجمْعي الذي يعشش جزء منه في خيال الجدة تشترك مع قومها في معتقد أن المجانين يسكنون القمر، وذلك حين يختفون بعدما عمّروا المكان طويلاً، فتصبح مع ريلكه على مجاز واحد.
انطلاقاً من هذه الحكاية يشحذ الأشعري ذاكرته فيسترجع شخصيات ووقائعَ وصوراً منفلتة في زمن توارى، لا يأنف من وضعها في إطار واقعي حَرْفي كما لو أنه يكتب سِيَراً لها مجردة من التخييل ثم يُلبسها تدريجياً غلالته إما باستبطان مشاعرها، وإما باستيهاماته الشخصية هو المؤلف لا السارد، فهما في هذه المجموعة متطابقان، لذلك تتسلسل أسماء معارف الكاتب أمام عينيه جاعلاً منها مطيةَ حكي، وليسبغ عليها الصفات التي طبعتها، فإن كنا نعرفها نحس أننا نكتشفها للمرة الأولى وهي مرسومةٌ بفرشاة ومُشخّصةٌ في سلوك وباديةٌ في طبع، ومُترقرقةٌ في شعور.
هكذا فعل مع عبد الرحمن اليوسفي رجل الحركة الوطنية المغربية وشخصية المعارضة التاريخية التي لبت في النهاية نداء الحسن الثاني وهو على عتبة مغادرة هذا العالم كي يتولى مع حزبه (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية) قيادة حكومة جديدة تنقذ البلاد من (السكتة القلبية)، وتمهد المُلك لوليّ العهد آنذاك الملك الحالي محمد السادس. نفسُه من أقال اليوسفي رغم بند احترام (المنهجية الديموقراطية)، فكان أن ألقى الأخير خطاب احتجاج تاريخياً في بروكسل، حوّله نسج الأشعري القاصُّ خطاب تفجّع يعلي اليوسفي الذي عمل معه وزيراً في الحكومة ويضعه في مصاف بطل تراجيدي، كان عليه أن يواجه سخرية الأقدار.
قصة "الخميس"
من الفريق نفسه ينتقي من فئة الراحلين المفكر أستاذ علم الاجتماع محمد جسّوس، الذي تفانى في التدريس الجامعي ومبادئ الحزب الاشتراكي. استرجع الكاتب صديقه ورفيق حزبه لحظات جنازته ليرسم له بورتريه يختصر شخصيته المركبة المختلفة ويصفه بطباعه المائزة، وكي يحدث المفارقة الضرورية يتخيل شخصاً يحضر جنازته يُظهر الأشد تأثّراً بالغاً على فراق الفقيد ولا أحد يعرف من يكون أو كانت له به صلة، وثم يتخيله يتنقل في الجنازات بالحزن نفسه، وينتهي به بنا المطاف لنكتشف أنه هو الفقيد ذاته يشهد موته ثم يعود طوعاً إلى نعشه. هذه قصة "الخميس" عنوان المجموعة، بطلها من مجموعة اعتادت السّهر كل خميس ومات. كذلك في قصص: "النسيج" و"المشي" وأخرى، هناك اقتفاء أثر أشخاص من زمن مضى لاسترجاعهم أحياء في لحظات تعبر عن أزمات حادة وجودية من حياتهم، وهم في الرّدح الأخير من العمر، ملكوا وعاشوا وها شمسهم تغرب يلعقون معها مرارة الحسرة والخسارات، واحدٌ منهم (يقظان) بعدما انتظر طويلاً عودة المرأة التي أنعشت حياته ولن تأتي يتنهّد بعبارات شعرية: "يا لتلك الخضرة! يا لتلك الأشجار! يا لذلك الماء! يا لتلك العذوبة والسكينة"(53).
صعقة عابرة
تُكتب القصة القصيرة حول مفارقة، معضلة فرد، صعقة عابرة، ومضة، شيء غير متوقع يصادفك في ناصية الشارع، وتُنسج بالحبك السردي والكثافة التعبيرية، والتلميح والبياض؛ ويكتبها محمد الأشعري، بالأحرى يقترحها علينا بارقةَ ذكرى فاتت، قشرةً من لحاء شجرة مُعمّرة، حفراً في ذكرى، رسمَ وجوه بيضاء بقي من تاريخها وشم، وهو يقرأ ويعيد رسم الأوشام، ويتقرّى مثل السّحرة القدامى النفوس، يفعل ذلك بروح الصوفي والذي اختمرت عنده تجربة الحياة والموت عشيرُه وهو حيّ، فالذين أحبهم، أحببناهم كلهم غدوا وعبروا البرزخ، لذلك لا مناص له من القول والحركة في مجرّة الشعر، والشعر يخاطب الأرواح لا الأجساد، الرِّمَمَ وشغاف القلب، بخطاب اللوعة والنوستاليجيا، وبالطريقة الممكنة التي نعبر فيها عن الناس والعالم ونودعه ونحن فيه، وهذا اختيار آخر في كتابة القصة القصيرة، لم لا جَبر. لكن من قال إن الرجل يريد هذا النوع الأدبي بالذات؟ ثمة سؤال مفتوح ينطوي عليه الكتاب وهو غير مُجنَّسٍ في الغلاف، فأيّ مكر هذا، ومن لا يعرف كيف يمكُر في الأدب ليس كاتباً!