تنطلق رواية "يوم الملاجا" للروائي المصري أيمن شكري (دار الثقافة الجديدة)، من لحظة كشف، تتحول إلى حال من البحث، والتقصي، والمغامرة.
تنتقل فيها الكتابة بين أجنحة زمنية مختلفة، تبدأ من لحظة القص الرئيسية التي تمثل ما يسمى بالزمن المرجع، حيث التسعينيات من القرن الماضي، وأوائل الألفية الجديدة.
ثم توغل في الزمن عبر تكنيك المذكرات لتمتد إلى بدايات القرن العشرين، وصولاً إلى الخمسينيات منه. مع تبئير الزمن وجعله مركزاً للفعل السردي في فترة الحرب العالمية الثانية.
تتجادل الأزمنة في الرواية إذاً، وتخلق مسارات سردية متوازية وأخرى متقاطعة أحياناً، تبدو بارزة قي الانتقالات بين المقاطع الروائية مثل حوار الراوي مع فاطمة وتشغيله الكاسيت، وبه أغنية عمرو دياب، وطلبها منه أن يجعله على أعلى درجة في الصوت كي تسمع بوضوح هي الأخرى، ثم عودته من جديد إلى مذكرات الجنود المنتمية إلي الحرب العالمية الثانية.
بنية الرواية
تتشكل الرواية من عشرات المقاطع السردية التي تتخذ عناوين فرعية، وتلعب على تكنيك الوحدات السردية المتصلة المنفصلة، وتأتي في نحو 170 صفحة، لتنطلق من رحلة بحث قلقة يجد الراوي نفسه متورطاً فيها.
يبدو الاستهلال الروائي مرتبطاً بالإهداء: "إلى شقِيقِي/ إِسْلام شُكرِي.. هذه روايتك التي لم تكتُبْها"، ويحيلك الإهداء على إحدى شخصيات الرواية (إسلام شكري)، فيما يقدم الكاتب نصه بوصفه رواية شقيقه التي لم يكتبها، ثم يأتي الاستهلال السردي مؤكداً هذه اللعبة الجمالية؛ عبر مراوغة تقنية يعلن فيها السارد الرئيسي أننا لسنا بإزاء رواية، بل مجموعة من الأوراق المبعثرة التي حصل عليها شقيقه ذات صباح في خزانة أو دولاب مهترئ يحوي خبيئة نادرة: "بداية، هذه ليست برواية، بل عرض صريح لأوراق ومتعلقات موظّف برِيد مصري، عمل في الهيئة القومية العامة للبريد والمواصلات والبرق، من بدايات القرن العشرين وحتى أربعيناته، عاصَر الحربين العظميين، وتنقل بين مكاتِب الهيئة شرقاً وغرباً، وفي كل قرية أو مدينة أو نجع كانت له صولات وجولات، مراسلات وأصدقاء وذكريات، ومذكِّرات".
تصادَف وجوده في "العلمين" إبان الحرب العُظمى الثانية، فكان منه أن جمع هذه التذْكَارات والمرَاسَلات واليوميّات في دُرْج دُولاب مكتبِه القديم، حتى وصلتْنَا ـــ أو توصّلْنا إليها ـــ بهذه الطريقة الغريبة، تِلك الأوراق والتذْكَارات والمذَكِّرات، عَثَرَ عليها أخِي مُصَادَفة، كان هذا في أواخر تسعينات القَرْن الماضي ـــ وهو بعده موظّف حديث ـــ خلال انتِقالِه ـــ هو وزملاؤه الموظّفِون ـــ مِن المكتب القديم إلى آخَر حديث في جواره.
تحيل الجملة الأولى "هذه ليست برواية" إلى فكرة النوع الأدبي ذاته، الذي صار جنساً أدبياً مرناً مفتوحاً على عشرات الصيغ والأبنية السردية.
وتبدو فكرة العثور على أوراق مخبوءة، والمخطوطات أو ما شابه سردية جاهزة في السرد العربي، وقد رأيناها عشرات المرات. من قبيل رواية "جبال الكحل" للروائي يحيى مختار، و"أوراق شاب عاش منذ ألف عام" للكاتب جمال الغيطاني، وغيرهما كثير.
موضوعي وذاتي
وتتخذ الأوراق سمة موضوعية، وأخرى ذاتية، تتصل الأولى (الموضوعية) بحدث كوني عام، ترك أثره في تاريخ البشرية، وأعني به الحرب العالمية الثانية التي دار جانب من رحاها في منطقة العلمين في مصر، حيث أحد الفضاءات المركزية في الرواية، والأخرى الذاتية تتصل بجد الراوي الرئيسي الذي عاين الحرب، وامتلك ألبوماً نادراً من الصور الفوتوغرافية، صنع الكاتب مقاربة فنية لها من خلال توظيف مفهوم الصورة الروائية في التعبير الجمالي عن مكوناتها البصرية.
وبذا يعد عبد المالك حميدة مسعود المنفي أو الجد ملوكة شريكاً في إنتاج الدلالة السردية داخل الرواية، التي تتنازعها عوالم متباينة، أحدها يطل على زمن التسعينيات، وبطله الراوي الرئيسي ورفاقه المتعددون (إسلام شكري، أسامة شكري، إسلام نبيل، حمادة الناظر، فاطمة، فيصل السوداني، كوارشي..). وعالم آخر ماضوي يطل على شبح الحرب العالمية الثانية، بطله الرئيسي مذكرات الجنود، والصور الفوتوغرافية، والجد ملوكة.
يتجادل خطان من السرد إذاً، يتوازيان، ويتقاطعان في الآن نفسه، وتعبر المقاطع السردية المصرية بعناوين فرعية عن جوهر المسارين الروائيين.
ففي مقطع "ملف العمل"، يأخذ السرد منحنى آخر، له صلة وثيقة بالمكان؛ الذي كان مسرحاً لحدث عالمي فارق في التاريخ المعاصر (الحرب العالمية الثانية) حيث يظهر الجد ملوكة، موظفاً بالبريد المصري، وقد عاين ذلك كله؛ عاين الخطابات، وعاين الوقائع.
وفي مقطع "العائلة الديابية" نجد تعزيزاً للزمن المرجع، الخارجي بالنسبة للرواية (التسعينات وأول الألفية الجديدة) في مقابل الزمن الفني الذي تنبعث عنه ومنه أغلب الحكايات (الأربعينات من القرن الماضي).
سيكولوجية الراوي
ثمة زمن موغل في سيكولوجية الراوي الرئيس، يلح على مظاهره ولوازمه، يؤرخ له عبر الأغنية، ولطالما حملت سردية الأغنية حضوراً في الوجدان العام اتفاقاً أو اختلافاً: "فنَحْنُ عائِلة ديابية حتى النُّخاع، فالكل هنا يَهوَى سماع (عمرو دياب)، أنا وأخَوَاي وأغلب أصدقائنا، وحتى كرتونة "الشرايط" لا تحتوي سوى شريط (فِينُه) لـ(هشام عباس) ـــ المحْضَر حديثاً ـــ وشريط (حياتي) لـ(مصطفى قمر) ـــ والذي بدِّدت عليه من حمادة مصطفى الناظر ـــ وشريط (كوكاكولا ميكس) ـــ الذى كان يضُم عشر أغان، أتذكر منها أغنية (لكن أنت يا عمري غير) لـ(نبيل شُعيل)، وأغنية (بحبك وبغار يا ويلي من الغيرة) لـ(عاصي الحلاني)، والتي كان يِتْنَطّط ويتقافَز عليها صديقنا (محمد علوان) حتى تكاد رأسُه تخبط بالسّقف وهو يردِّدها مع صوت الإستيريو الباناسونيك الاتنين باب والاتنين سمّاعة، والإكواليزر (مُغَيِّر الآلات الموسيقية العجيب ذُو الخمس ضبطات: طبلة وكمنجات ودبدبة صاخبة وسكسكة بالإضافة إلى صوت الكاسيت العادي)، المهم، كانت كرتونة الشرايط تضم شريط (كوكاكولا ميكس) وشريط (فِينُه) لـ(هشام عبّاس) وشريط (حياتي) لـ(مصطفى قمر)".
حكايات فرعية
تتناسل الحكايات الفرعية من متن الخبيئة المعثور عليها، وبعضها يبدو متصلاً بلحظة الحكي الراهنة مثل الحكايات عن الأصدقاء حمادة الناظر وغيرها.
تبدو خواص المكان وطبائع أهله، من الإقدام، والدهاء حاضرة في مقاطع عديدة من أبرزها مقطع (الهروب المستحيل) الذي ينجح فيه مجموعة من البدو في خداع المحتل الذي احتجزهم في موقع حصين: كان لقاءً ساحراً، استضافت فيه المذيعة أحد شباب مطروح من البدو، يحكي ذكريات جدِّه في قتال المحتل إبان الحرب العالمية الثانية، حكى أن جده كان زعيماً عسكرياً لمجموعة من البدو، ألّفَها عبر سنوات من أصدقائه المخلصين، ليقاتلوا الإنكليز والألمان والطليان وأي قدم تطأ أراضيهم غصباً، ينصُبون لهم الكمائِن، ويفجِّرون مخازن المؤَن والذّخيرة، يُطيِّرون النوم من جفون الأوغاد، وكل ذلك كان بوسائل بدائية وأسلحة غنموها من الأعداء، حكى الشاب ـــ في ما حكى ـــ عن أن المحتلين تمكنوا أخيراً من الوصول إليهم، بأي طريقة؟ لم يذكر، اعتقلوهم في مكان مجهول تحت الأرض، ثم حكموا عليهم جميعاً بالإعدام، حبسوهم لأسبوعين أو ثلاثة، ثم في يوم التنفيذ المعلوم، فتحوا الزنزانة التي تحت الأرض، فلم يجدوا أحداً، تمكن جدُّه ورفاقه من الهروب، بعدما أعدّوا له خطة سرية سحرية، لم يستخدموا فيها سوى بعض الحصى والرمال، إلى جانب الدهاء البدوي المعروف، حادثة مخزية لقوات الغازي، جعلت قادتهم المتغطرسين يلغون لعب السبعاوية في ما بين العرب، بعدما فطنوا لسرها الدفين، وأنها ليست كما أوهمهم المعتقلون بأنها لعبة مسلية تصبرهم على تقضية أيامهم الأخيرة في سعادة وسكون. لا، بل هي خطط حربية يتدرب عليها الصبية منذ نعومة أظفارهم عالتلتاوية، وما إن يشِبُّوا قليلاً، حتى يحترفوا الخمساوية، ومن هوى اللعبة منهم، أكملها لمنتهاها وأدمن لعب السبعاوية".
مساءلة الحرب
تُسائل الرواية فكرة الحرب ذاتها، ليس من خلال جمل سردية مباشرة، ولكن عبر مواقف سردية، تتواتر في مذكرات الجنود، أو في الصور التي امتلكها الجد ملوكة، ومن أبرز المقاطع في هذا السياق ما أثبته الجندي الألماني هاينريش جراس في رسالته إلى زوجته وأطفاله:
"سقطت طائرتي وسط الصحراء وتحطمت ونجوتُ بأعجوبة، كان القصف المضاد لطائرات الإنكليز على أشُدِّه، كل زملائي الطيارين في السِّرب لَقُوا حَتفَهم، تفجّرت طائراتُهم في الهواء، شاهدتُّ أشلاءهم المحترقة تتطاير في الهواء أمام عينيّ، وأنا أحاول بائِساً السّيطرة على طائرتي التي أصابتها قذيفة في الذَّيل فترنّحَت حتى سقطت، أُصِبتُ إصابات بالغة، أُغْمَ عليّ، ولولا هذا الشاب البدوي من أهالي مطروح، لكان الموت مصيري لا محالة، يبدو أنّنا لسنا بأرقى الأعراق كما كنّا نتوهم".
إشكاليات فنية
ثمة إشكاليات فنية في الرواية، من بينها عدم اكتمال بعض المقاطع السردية، أو استحقاقها عنواناً فرعياً من قبيل المقطع السردي عن (حمادة الناظر)، لأن المقطع القائم والمستقل بذاته يجب أن ينظر إليه بوصفه وحدة سردية عضوية داخل النص، يجب فيه أن يهتم الكاتب بالختام السردي مثل اهتمامه بالمفتتح، هناك أيضاً بعض الاستطرادات المجانية النابعة من زخم هائل في شخصيات الرواية وأحداثها، فضلاً عن ضرورة تضفير اللهجة المحكية (البدوية) على نحو أكثر انسيابية مع لغات السرد الأخرى.
ثمة ولع بمفردات البيئة المحلية، والكشف الجمالي عن ثقافة المكان (أغاني العلم/ العادات والتقاليد / الأطعمة /..)
ويعد الفصلان الأخيران دالين للغاية، يشير أولهما (الصفحة الأخيرة) إلى تداخل الواقع والحلم، فهل ما عثر عليه حقيقي، أم أنه محض مزحة ثقيلة من شقيق الراوي الرئيسي. والثاني يحمل عنوان الرواية ذاتها "يوم الملاجا"، وفي كليهما تلوح "غاليا" الحلم الممكن والمستحيل في الوقت نفسه.
تحمل "يوم الملاجا" جهداً تقنياً وموضوعياً، تحيل على سردية الحرب العالمية الثانية، لكنها تضع قدماً في لحظة زمنية أقرب مدى، منبئة عن روائي حقيقي، وموهوب.