النهار

المفكّر المغربي عبد الله العروي يكشف الأوراق المستورة في "دفاتر كوفيد"
أحمد المديني
المصدر: باريس- النهار العربي
يحتاج الحديث عن هذا الكتاب ومراميه، إلى التذكير بنبذة من سيرة كاتبه ومجاله صنع فيه موقعه ونظّم خطابه العقلاني ومنهجية التاريخانية.
المفكّر المغربي عبد الله العروي يكشف الأوراق المستورة في "دفاتر كوفيد"
صورة تعبيرية
A+   A-
رغم أن الأستاذ عبد الله العروي آثر الاعتكاف على التدريس والتأليف في التاريخ وفلسفته، مبتعداً عن الأضواء، ونادراً ما اهتم بالحدثي، فإن كتابه " Carnets Covid" (دفاتر الكوفيد) (المركز الثقافي للكتاب) هو حدث، إذ يعالج شؤوناً حارقة ومسائل تبدو فلسفية وأيديولوجية، ولصيقة بالواقع راهنة. 
 
يحتاج الحديث عن هذا الكتاب ومراميه، إلى التذكير بنبذة من سيرة كاتبه ومجاله صنع فيه موقعه ونظّم خطابه العقلاني ومنهجية التاريخانية، منذ كتابه الرائد بالفرنسية L’idéologie arabe contemporaine أو الأيديولوجية العربية المعاصرة (ماسبيرو 1967)، تُرجم الكتاب بدايةً ترجمة لم تنقل معانيه جيداً فأعاد مؤلفه تحريره بالعربية، فغدا مرجِعاً لا غنى عنه لبيان حصاد الفكر العربي وأعلامه. 
 
ومن ثمّ عزّزه بكتاب "العرب والفكر التاريخي" (1973)، وبعد أطروحته بالسوربون: "الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية" (لا ديكوفيرت 1977) انصرف يبني منظومته الفكرية بإعادة تمحيص مفاهيم رائجة وصقلها في ضوء تاريخ الفكر وتجارب الواقع، أثمرت سلسلة كتب: "مفهوم الأيديولوجيا" (1980)؛ "مفهوم الحرية" (1981)؛ "مفهوم الدولة" (1981)؛ "مفهوم التاريخ" (1992)؛ آخرها "مفهوم العقل" (1996)، تلتها مؤلفات وترجمات فلسفية كرست مؤلفها، من أعمدة الفكر العربي العقلاني ومجدّديه.
 
أنشأ عبد الله العروي الذي احتفل الوسط الأكاديمي في المغرب العام الماضي بالذكرى التسعين لولادته مدرسةً عقلانية في كتابة التاريخ وفلسفته، هزت قلاع التفكير التقليدي في المشرق أطاح في تحليلاته رموزها المقدسة وكشف افتقارها إلى المنهجية العلمية، هو من تتلمذ على كبار أساتذة الجامعة الفرنسية في باريس (مكسيم رودنسون، وريمون آرون، منهم) فتشبّع بالثقافة الغربية معززة بالثقافة العربية رضعها من محيطه وغذّاها ليكون مثال المثقف المغاربي العربي مزدوج اللغة فحاضر في جامعات فرنسية وأميركية. 
 
 
 
نفي الذات
بين أكاديميته وأبحاثه، توقف بتقطّع في واحات أدبية أثمرت نصوصاً ذاتية وموضوعية، لأن ذاتيته دائماً هي موضوعُه، أقصاها لفائدة العالم الخارجي ومعضلاته. 
باكورته في هذا رواية "الغربة" (1971)، رجعُ صدى أدبي لإشكاليات "الأيديولوجية ع م"، تلتها "اليتيم" (1978) ثم "الفريق" عن معضلات اجتماعية سياسية مغربية، توَّجها بسيرة ذاتية أسماها "أوراق إدريس الذهنية" (1989) نفيُ إعلان الذات تأكيدٌ على رؤية. ثم سيتحول إلى ضمير المتكلم بدون فراق خطاب العقل فكتب سلسلة: "خواطر الصباح" من أربعة أجزاء، الشعور فيها تأملي وكاتبها جلمود يناقش الأفكار.
في كتابه الجديد "دفاتر الكوفيد"، سنفكر أنها أوراق كُتبت في فترة اجتياح الوباء، انصرف باحثون وكتاب إلى تدوين معيشهم خلالها، توفّر منها اليوم متن روائي عربي (مثاله: "فرصة للغرام الأخير" لحسن داود؛ و"مسافات حب" للمغربي مبارك ربيع) وعمد آخرون إلى تدوين خواطرهم قالب يوميات، صنيع العروي في هذا الكتاب إنما على منواله وبما ينسجم مع عقله ونهجه: تأكيد نفي الذات، وتحصينها بمناقشة الإشكاليات والمفاهيم وتفكيك المسلّمات، زاد عليها إبداء الرأي في قضايا وطنية وإقليمية ودولية، تقدمه حاضراً في سياق الأحداث واعياً بها متدخِّلاً لا مفكِّراً في برج عاجي، بالأحرى، كان كتابه بالفرنسية "المغرب والحسن الثاني" (2005) آخر تأليف شهادة عن شخصية وزمن سياسي، تحضر فيه آراء سياسية وملاحظات عن الدولة. 
 
يعود حالياً إلى أخطر موضوع يتجاذب الصراع في منطقة المغرب العربي، نعني "قضية الصحراء" التي استرجعها المغرب سنة 1975 بعد رحيل الاستعمار الإسباني، وأقحمت الجزائر نفسها في نزاع مفتعل مع جارها الغربي باسم نُصرة ما تسميه (الشعب الصحراوي) مختلقةً جمهوريةً وهميةً، بهدف تطويق المغرب من جنوبه ولقطعه عن القارة، ولتحقيق زعامة في المنطقة بحكم جغرافيا شاسعة صنعها المستعمر الفرنسي وثروة نفطية هائلة. ما ولّد أشكالاً من سوء التفاهم بين البلدين ونزاعاً هو الآن في حالة حرب صامتة. 
هذه خلاصة أساس انتهى إليها تحليل صاحب الأيديولوجية المعاصرة، تجاه مناوأة الجزائر للمغرب في حقه لاستكمال وحدته الترابية. تعد الفقرات المخصصة في الكتاب للمسألة الجزائرية المغربية مرافعةً قانونيةً وجداليةً عن حق المغرب، يجد فيها المؤرخ تحليلاً لجذور تأسيس الدولة الجزائرية بحدود صنعها الاستعمار وتتبناها نخبةٌ وحكمٌ عسكري، وما نجم من تناقضات ونزاعات. يدقّ العروي في الأخير ناقوس الخطر من حرب محتملة بين الجارين دفعت المغرب لأحلاف حتّمها نفيرٌ معلن، قول ينطوي على تبرير سياسة التطبيع الرسمية مع إسرائيل، بنزعة وطنية. 
 
 
 
تدقيق مفاهيم
من بدايات 2020 إلى بُعيد 2022 يمضي العروي في طريق متشعب، شاغلُه مساءلةُ أفكار وتدقيق مفاهيم، منها توضيح اتهامه بالاعتناق الأعمى للفكر الغربي ليقدم صورة مغايرة عما فُهم من تاريخانيته. يزدوج عنده التحليل والشهادة، وكأن الرجل يريد تبييض صحيفته لقرّاء الغد. 
أحب الإشارة منها إلى مناقشته للكاتب اللبناني أمين معلوف أمين سر الأكاديمية الفرنسية حالياً، يجادله بخصوص حديثه عن ليفي ستراوس بأن الحضارة الغربية هي المرجع وسواها حضاراتٌ مهزومةٌ مسجلاً عليه الخلط بين حضارة ثقافة، ومزعم تميّز الحضارة الغربية وفرادتها. وإذ يذكر معلوف نفور ستراوس من الإسلام، فيما هذا الأخير يؤاخذ عليه هو تضخيم مساوئ الحضارة الغربية في احتقارها للآخر. 
من ثم ينتقد العروي الأكاديمي اللبناني في إغفاله أن هذه الحضارة مدينة للآخرين، وأنها هجينة لا خالصة. غرض إعادة النظر في مسلمات، وتبرئة نفسه من هوى استلاب مطلق للثقافة الغربية. ينكر عليها قفزها إلى المرجعية الإغريقية بالسكوت عن ثقافات أخرى. 
 
 في دفتر يومياته، متقطّعة مرةً، متسلسلة أخرى، يتبع المؤلف خيط أفكار في رأسه اللازمة في حديثه مسألة الصحراء المغربية، وفهمه وتأويله لموقع السلطة المركزية أو دولة (المخزن) وعلاماتها اعتُبر العروي من المدافعين عنها. نقرأه يفسر، يبرر بمقارنات مع التاج البريطاني بالفوارق بين الشكلي (مجال الهوية الثقافية)، والجوهري، وحده قابل للتعميم لأنه نافع وحتمي. يقدم الرأي أيضاً في المسألة الدينية، بانتقاد عقلية الجمود لدى علماء الدين بشرحهم التعميمي للقرآن لا يفرقون بين أسباب نزول الدنيوي والمطلق. 
يريد ألا يفلت منه شيء من أزمات الحاضر، الحرب المندلعة في أوكرانيا، وتاريخ الصراع الروسي الأوكراني. الوضع السياسي في فرنسا بين يسار منهار ويمين متطرف، توتر العلاقات المغربية الفرنسية وإشارات شتى. كأن الكاتب يفكّ بها العزلة عن نفسه ويوسّع انغلاق الفضاء بسبب قيود وموانع الكوفيد. 
في خاتمة هذه القراءة لكتاب مثار اهتمام كبير لمفكر مغربي يكاد يعتبر الأخير في العالم العربي، قد نلاحظ أن مؤلفه لم يقل كلمته الأخيرة، يشهد على نفسه: "لا أراني عجوزاً، وأواصل عملي كما فعلت دائماً، مع فارق وحيد أنني أفكر أكثر في الطريقة التي سأودّع بها العالم، من غير أن أتألم، وخصوصاً بدون إزعاج لأهلي".
 

اقرأ في النهار Premium