منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، توجّه تل أبيب اشاعاتها وأكاذيبها ضدّ المفاوض المصري ودوره في تفكيك أوصال الأزمة المشتعلة بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل، من خلال التصريحات الرسمية وغير الرسمية، أو عبر الحسابات الوهمية على منصات "السوشيال ميديا" التي تدير المعركة المسمومة ضدّ القاهرة ومسؤوليها السياسيين والأمنيين.
يمتلك الإعلام العبري منظومة ضخمة تروّج لأباطيله وأكاذيبه، وفق استراتيجية "الكذب المُقدّس"، التي تتبعها دولة الاحتلال أمام المجتمع الدولي، كي تواري بها فضائحها وهزائمها، وتخلق بها واقعاً جديداً تزعم فيه دفاعها عن نفسها، ويتماشى مع أطروحة الدولة العصية على السقوط.
عشرات الأكاذيب التي ردّدتها إسرائيل للنيل من القاهرة وقياداتها، وأسندتها وسائل إعلامية دولية إلى مصادر مجهولة، ابتداءً من موافقتها على تمرير سيناريو تهجير مواطني قطاع غزة، وغلق معبر رفح، ومنع وصول المساعدات إلى الجانب الفلسطيني، ودعم حركة "حماس" بالأسلحة، مروراً باتهامها بتعديل شروط صفقة وقف النار، وتولّيها مسؤوليات أمنية داخل قطاع غزة، وتراجعها عن الانضمام الى جنوب إفريقيا في دعواها المرفوعة ضدّ إسرائيل لدى محكمة العدل الدولية، انتهاءً بتغاضيها عن وجود الأنفاق السرّية على الحدود المصرية.
تلفيق الإشاعات والأباطيل ضدّ المفاوض المصري، يحقق في ذاته مجموعة من الأهداف السياسية، منها تعمّد الإساءة إلى سمعة الدولة المصرية بسبب موقفها الصامد أمام تمرير مشروع التهجير وتصفية القضية الفلسطينية، فضلاً عن دورها في فضح الاعتداءات والجرائم الصهيونية في حق الشعب الغزاوي، وعدم رضوخها لأي إغراءات أو ضغوط أميركية بريطانية تمهّد للمصالح الإسرائيلية، يواكب ذلك التعتيم على الفشل الإسرائيلي في تحقيق الأهداف العسكرية في الحرب على قطاع غزة، ومحاولة إطالة الحرب، تفادياً لتقديم الجنرالات الإسرائيليين استقالاتهم، وإحالتهم على التحقيقات وخضوعهم للمحاكمة رسمياً، في ظل مساعي المعارضه الإسرائيلية للإعلان عن خريطة طريق لحل حكومة نتنياهو، والدعوة إلى انتخابات مبكرة، وسط ضغوط وانقسامات داخلية.
النزعة المتأصّلة لدى دولة الاحتلال في توظيف استراتيجية "الكذب المُقدّس"، جعلتها تُؤسس وحدة متخصصة في الترويج للاشاعات والأباطيل، في إطار صراعاتها مع جيرانها في عمق المنطقة العربية والشرق الأوسط، وتدفع بأكاذيبها المزيفة التي تضمن لها البقاء والقوة الوهمية، وتحقق لها الغلبة الشكلية.
ولم تتوقف حملة الأباطيل ضدّ المفاوض المصري عند بوابة الإعلام الرسمي الإسرائيلي، لكنها انتقلت إلى ساحة الفضاء الأزرق من خلال الحسابات الوهمية التي تلعب فيها وحدة "حتساف" دوراً مهماً في الترويج للإشاعات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وصناعة الفتنة، وزعزعة الجبهات الداخلية على مستوى المنطقة العربية، والتي تتبع جهاز الإستخبارات العسكرية "أمان"، تحت مظلة الوحدة "8200" المعنية بالإشراف على إدارة "الحروب الإلكترونية".
تتولّى الوحدة "8200" وتوابعها مسؤولية حرب الإشاعات ونشر الأكاذيب، واختراق أجهزة الكمبيوتر والهاتف المحمول، ورصد البيانات ذات الأبعاد الاستخبارية وتحليلها وتفكيكها عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي، فضلاً عن أنها تضع قضية التطبيع في أولويات عملها، والترويج لإسرائيل ثقافياً واجتماعياً وفنياً في الدائرة العربية، بجانب إشرافها على المنصات الإسرائيلية الرقمية الناطقة بالعربية.
رغم التفاؤل الحذر حيال المبادرة الأخيرة التي طرحتها الإدارة الأميركية للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار والتي تستهدف في المقام الأول تحجيم تطور الصراع الإقليمي في الشرق الأوسط، في ظلّ الحرب على غزة، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ضرب بتفاصيلها عرض الحائط، في تحدٍ للأطراف الفاعلة في المشهد، معلناً أن بلاده لن تنهي الحرب على غزة حتى تتمّ هزيمة "حماس"، وتحقق الحرب كل أهدافها.
يقع العقل الإسرائيلي وجنرالاته أسرى لأسطورة الدولة التي لا تُقهر، التي صاغها وفق مفاهيم بناء "الدولة الإسرائيلية" التي ترتكز على محور "القوة" في صناعة صورتها القومية وفلسفتها، ومن ثم تهيمن سياسة محو وصمة عار السابع من أكتوبر على انفعالاته وسلوكياته التي تمثل بداية مرحلة فاصلة في تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي، ما يدفعه إلى عدم التخلّي عن استكمال مشروعه العسكري في الحرب على قطاع غزة، والخلاص من فكرة الفشل الاستخباري والعسكري، أياً كانت النتائج المترتبة على ذلك.
سردية "الكذب المُقدّس"، الملازمة للجنرالات الإسرائيليين، ليست سقطات عفوية، تنمّ في مجملها عن تكهنات أو نوع من التخبّط في الحالة الإعلامية والسياسية والعسكرية، لكنها جزء من عقيدة أصيلة متجذرة في استراتيجيات العقل الجمعي الإسرائيلي وأجندته، ضمن مشاريع الحروب النفسية والسيبرانية.
لم ولن تتوقف الآلة الإعلامية الصهيونية عن الترويج للأباطيل والأكاذيب التي تحولت إلى عمل "مُقدّس" واعتيادي في الأجندة السياسية والعسكرية الإسرائيلية، ونمط فكري واستراتيجي لجنرالاتها، أملاً في التعايش في خندق الانتصارات الوهمية، وتجاهلاً لواقعها وهزائمها، ومبرّراً لجرائمها وانتهاكاتها، وتبييضاً لسمعتها وفشلها، ونيلاً من خصومها وأعدائها، فضلاً عن قدرته المتناهية على تعبئة جبهتها ومكوناتها الداخلية المترهلة والمنقسمة على ذاتها.