رغم أن "البدايات" هي الرواية الأولى للكاتب السوري طارق شمّا، الصادرة أخيراً عن دار نوفل، فإنّها تُفرد في متنها هامشاً واسعاً للتجريب. ذلك أن تعدّد بداياتها، واختلاف نهاياتها، وجدلية العلاقة بين الإطار والمحتوى، وتعدّد الأصوات الراوية، وقيام الراوي العليم بمواكبة راوٍ شريك وتقييم عمله، وتصدير أقسامها بمقتبسات عالمية، وتجلّي الشخصية الواحدة بتجلّيات مختلفة، هي عناصر تدخل في باب التجريب، وتشكّل انزياحاً عن المألوف الروائي، ما يمنح الرواية فرادتها الفنّية.
ولعلّ هذه الفرادة ناجمة عن مواكبة صاحبها الحركة الروائية، لا سيّما أنّه كاتب ومترجم وأكاديمي وأستاذ في الترجمة والأدب المقارن في "جامعة ولاية نيويورك" الأميركية.
في "البدايات" يتناول طارق شمّا الأعطاب الجسدية والنفسية التي يُحدثها الزمن في الإنسان، فيضعه أمام خيارات محدّدة، ويكون عليه أن يختار أحدها، وفي بعض الحالات، يختزل تلك الخيارات إلى خيار واحد، وليس على الإنسان سوى اختياره، بمعزل عن النتائج المترتّبة على هذا الخيار.
وهو يفعل ذلك، من خلال رصده انعكاس الزمن على شخوص الرواية الثلاثة؛ الممثّلة والصحافي والطبيب، أو على شخصيّتي الممثّلة والصحافي/ الطبيب، إذا ما اعتبرنا أن الشخصيتين الأخيرتين تجلّيان لشخصية واحدة، كما تتمخّض عنه أحداث الرواية.
تجليات ومآلات
تختلف تمظهرات الزمن ومآلاتها من شخصية إلى أخرى. ففيما يبدو انعكاس الزمن على ليلى سالم، الممثّلة المصرية الجميلة، في عطب في العمود الفقري، وشلل نصفي في الوجه، وانطواء على الذات، وتجنّب الاختلاط بالآخرين، ويؤول بها إلى الانتحار في نهاية المطاف، يتمظهر انعكاسه على عادل، المحرّر الثقافي السوري في جريدة لندنية عربية، في شعوره بالفقد بعد رحيل زوجته وداد، والبحث عن بداية جديدة في لندن، والعكوف على كتابة رواية ليلى، حتى إذا ما رحلت الأخيرة بدورها، يشعر بالذنب لعدم إنجاز الرواية، ويؤول إلى اجتراح بداية جديدة.
ويتجلّى انعكاس الزمن على الطبيب المعالج لليلى في مستشفى العظام اللندني، وهو الوجه الآخر للصحافي، في انشغاله بها وقلقه عليها ومحاولته التخفيف عنها.
وهو ما تتم ترجمته روائياً في اللقاءات بينهما في فضاءات مكانية مختلفة، والقيام بأنشطة مشتركة، والانخراط في حوارات متتالية، ما يجعل العلاقة بينهما تتطوّر من الإطار المهني بين طبيب ومريضته إلى الإطار الإنساني، فتقوم صداقة بين الاثنين، يجمع خلالها الطبيب بين وظيفتي طبيب العظام والمعالج النفسي، وتفضي إليه المريضة بلواعج نفسها، وتبوح له بما يعتمل في داخلها، وتخبره عن أسرتها، حتى إذا ما تصالحت مع ذاتها، وأدركت استحالة إحياء أمجاد الماضي، واتّخذت قرار الرحيل، يحترم قرارها ويعيش صدمة انتحارها، ويؤول، وقد اجتمع فيه الصحافي والطبيب، إلى البحث عن بداية جديدة. على أن اجتماع الشخصيتين في واحدة تؤكّده نقاط التقاطع الكثيرة بينهما في الرواية؛ فكلاهما يتحدّر من مدينة اللاذقية، ويقيم في لندن، ويكتب القصة، ويمتلك ثقافة نقدية، ويزور ليلى بعد خروجها من المصح، وغيرها. لذلك، سنكتفي بتحليل شخصيتي المريضة، من جهة، والصحافي / الطبيب، من جهة أخرى.
الممثّلة والطبيب
تشكّل العلاقة بين الممثّلة المريضة ليلى سالم، القادمة من مصر للعلاج في لندن، والطبيب العامل في مستشفى العظام، محور الأحداث في "البدايات"، بدءاً من لقائهما الأول في عيادته، مروراً بسلسلة من اللقاءات خارج العيادة، وانتهاءً بإقدامها على الانتحار برمي نفسها من البرج الذي تقيم فيه.
تتبلور الشخصيتان من خلال هذه المحطات المختلفة؛ فالطرف الأوّل في هذه العلاقة ليلى سالم، نجمة السينما الجميلة، ترزح تحت وطأة الزمن الثقيلة، تفقد نجوميتها بفعل التقدم في العمر، ويبهت جمالها بفعل المرض، ويقلّ الطلب عليها في السينما.
هكذا، تنطوي على نفسها وترفض الاعتراف بالواقع الجديد، وتواجه الوقائع المستجدّة بكبرياء وأنفة، فتخفي ألمها عن الآخرين، وتؤثر العزلة كي لا يكتشفوا شخصيتها الحقيقية، ويقارنوا بين ما كانت عليه وما آلت إليه. لذلك، تعيش صراعاً داخلياً بين ماضٍ تحنّ إليه مضى إلى غير رجعة وحاضرٍ يثقل كاهلها وترفض الاعتراف به.
وفي مواجهة هذه الوقائع، تتوجّه للعلاج في لندن، وتشكّل لقاءاتها الدورية مع الطبيب المعالج، والحوارات المنعقدة بينهما، والعكوف على العلاج الطبيعي، وسائل لردم الفجوة بين الزمنين داخلها، حتى إذا ما أدركت استحالة استعادة نجوميتها المفقودة، تعلن هزيمتها في المعركة مع الزمن، وتستخدم السلاح الوحيد الباقي بحوزتها، وتُقدم على الانتحار. وبذلك، نكون إزاء شخصية داخلية، مأزومة، مزاجية، منكرة للواقع، متمرّدة عليه في قرارة نفسها، ترفض أنصاف الحلول، وتذهب إلى الخيارات القصوى.
ولعل هذه هي حال معظم الفنانين المشاهير الذين يشكّل فنهم مبرّر وجودهم، فإذا ما زال، لسبب أو لآخر، زالوا. وهو ما تعبّر عنه ليلي بالقول: "كأن الفن الذي أعطاني كل شيء هو نفسه الذي أخذ مني كل شيء" (ص85).
الطرف الثاني في العلاقة يكمن في ثنائية الصحافي/ الطبيب اللذين يشكّلان تجلّيَيْن اثنين لشخصية واحدة، على أن العلاقة بين الصحافي، التجلّي الأول للشخصية، والممثّلة غير مباشرة، وتتمظهر في تذكّره إعجاب زوجته الراحلة وداد بها، وحضورهما بعض أفلامها، وسماعه نبأ قدومها إلى لندن للعلاج، وقيامه بحضور أفلامها، ومحاولته كتابة رواية عنها. بينما ينخرط الطبيب، التجلّي الثاني للشخصية، في علاقة مباشرة معها، باعتبارها مريضته، وتتمظهر في جلسات المعاينة، وارتياد المرافق السياحية، وحضور الفعاليات الفنية، والانخراط في حوارات ثقافية، ما يتمخّض عن صداقة بينهما وميله إليها وإعجابه بها، لذلك، يتخلّى عن تحفّظ الطبيب وحياديته في التعامل مع مريضته إلى نوع من الاهتمام الخاص المشوب بالقلق، ويأخذ على عاتقه التخفيف عنها وتغذية وهم استعادة تألقها الماضي ولعله يفعل ذلك بهدف مساعدتها على الشفاء ممّا تعاني منه. والمفارق أنه حين تقترب من تحقيق هذا الهدف تقدم على الانتحار، ما يجعل الطبيب يشعر بالذنب لفشله في إنقاذها. ولعل محاولته كتابة قصتها تشكّل نوعاً من التعويض عن هذا الفشل. وعليه، يكون حضور هذه الشخصية في الرواية مرتبطاً بشخصية الممثّلة المريضة المحورية. وهو ما ينطبق على الشخوص الأخرى في الرواية، بشكل أو بآخر.
تداخل الروايات
وَعَوْدٌ على بدء، يصطنع طارق شمّا خطاباً روائياً لهذه الأحداث يقوم على تقنية تداخل الروايات وتناغمها في الحيّز الروائي؛ ففي "البدايات" ثمة رواية أصلية يرويها راوٍ عليم، يتوارى خلفه الروائي، وثمّة رواية فرعية منسوبة إلى شخصية مشاركة وترويها أصوات مختلفة. على أن العلاقة بين الأصلية والفرعية هي علاقة الإطار بالمحتوى. واللافت، في هذا السياق، أن الراوي العليم يتدخل في عمل الراوي الشريك / الكاتب المفترض، ويقيّم ما يقوم به، ويعرض السيناريوهات المختلفة معه، وأن هذا الأخير يقترح لروايته نهايات مختلفة، تنفتح إحداها على إمكانية بداية جديدة مع سلمى، زميلته في الجريدة، ما يشكّل مؤشّراً على استمرار الحياة، فالانتحار ليس نهاية المطاف، وعلى الحياة أن تستمر. وعليه، تكون "البدايات" خطوة أولى واثقة، في مسار روائي، لا بد أن تعقبها خطوات أخرى.